عقليّة التّساؤل والسّرديّة البديلة للتّاريخ العربيّ
في العام ١٩٦٨، كان "جورج صليبا" تلميذًا جامعيًّا يافعًا حين أثارت اهتمامه مقولة سمعها من أحد معلّميه: "العلوم أصلها يونانيّ، وقد انتقلت إلى العرب عبر اللّغة السّريانيّة". وكونه يتحلّى بالعقليّة التّساؤليّة، كان لـ"صليبا" تساؤلات عديدة حول هذا القول، فأخذ على عاتقه مهمّة التّحرّي عن صحّته وكرّس ما يقارب ستّ سنوات لدراسة اللّغة السّريانيّة وإتقانها، كي يتمكّن من قراءة ما تبقّى من آثار هذه اللّغة بهدف فهم دورها في نقل الحضارة اليونانيّة إلى العربيّة. وبعد البحث المكرّس، تفاجأ باحثنا أنّ ٩٩٪ ممّا نقل بالسّريانيّة ليس علومًا! إذًا، إذا لم تكن العلوم في الحضارة العربيّة قد أتت من اليونانيّة عبر السّريانيّة، فما الّذي حصل بالفعل؟
"جورج صليبا" هو أستاذ شرف للحضارة والعلوم العربيّة والإسلاميّة في جامعة كولومبيا لأكثر من ٤٠ سنة، والمدير المؤسِّس لمركز "فاروق جبر" للعلوم والفلسفة العربيّة والإسلاميّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت. وفي محادثة مشوّقة عبر بودكاست "فنجان"، والّتي يمكنكم تفقّدها عبر هذا الرّابط، تحدّى "صليبا" السّرديّة الكلاسيكيّة حول نقل الحضارة من اليونانيّة إلى العربيّة، وطرح سرديّة بديلة للتّاريخ العربيّ مبنيّة على البحث العلميّ والحقائق التّاريخيّة.
ولتحقيق هذا الهدف لجأ "صليبا" إلى الأدلّة، ونذكر منها كتب عالم الفلك الفارسيّ "عبد الرّحمن الصّوفيّ" الّذي يوفّق بين الحضارتين اليونانيّة والعربيّة عبر طرح حوار بينهما. فمثلًا، فيما يخصّ علم الفلك، يتبيّن من كتاب "الصّوفيّ" أنّ للبدو العرب تسميات للكواكب، ككوكب النّاقة، ليست موجودة في العلم اليونانيّ. لكنّ هذا لا يعني أنّ الحضارتين منفصلتان عن بعضهما بعضًا أو أنّهما كانتا في صراع حضاريّ، بل هو أمر يثبت أنّ التّلاقح والتّأثّر الحضاريّ هو حقيقة ما حصل في تاريخ العلوم. لم يكن التّأثّر أفقيًّا، أي بدءًا من اليونان وصولًا إلى العرب، بل كان في الحقيقة تفاعلًا ذا اتّجاهين، إذ أثّر العرب في اليونان، وفي الوقت نفسه تأثّر اليونان بهم ما أدّى إلى تغيّر العلوم وتطوّرها إثر الاحتكاك الحضاريّ. سؤالنا إذًا، لماذا انتشرت السّرديّة الكلاسيكيّة؟ ومن المستفيد الأكبر منها؟
يُلقي "صليبا" الضّوء على تبنّينا أقوالًا شعبيّة كثيرة من دون التّفكّر بمآلاتها وانعكاساتها السّلبيّة على نظرتنا لذاتنا، كقول "كلّ فرنجي برنجي"، أي كلّ ما يأتي من الغرب هو أجود وأحسن ممّا يُصنّع محلّيًّا. وفي نظر "صليبا"، من شأن هذا القول وأمثاله زرع الثّقة العمياء في كلّ ما هو مستورد بدلًا من الوثوق بمختلف الصّناعات العربيّة والأبحاث العربيّة وحتّى اللّغة نفسها. وبكلمات أخرى، تتدهور الحضارات حين يعتاد شعوبها على أفكار المستعمر لتصبح هي السّائدة والنّمطيّة في المجتمعات.
قد تتساءلون الآن: "ما صلة كلّ هذا بواقعنا اليوم؟ وكيف يمكن لإعادة النّظر في أمر قد حصل ومضى أن يؤثّر في حاضرنا ومستقبلنا؟ في الواقع، إنّ مقاربة "صليبا" للتّاريخ العربيّ وطرحه نثريّة جديدة لإنتاج المعرفة يؤكّدان على دور العرب الفعّال، وليس العابر، في صنع تاريخهم؛ كما يثبتان أهمّيّة تبنّي عقليّة النّموّ والتّساؤل بدلًا من عقليّة الجمود والقبول بكلّ ما يُقال وينتشر. ويختم باحثنا حديثه قائلًا إنّه علينا أن نصبّ طاقتنا اليوم على التّفكير في كيفيّة النّهوض بالمجتمع بدلًا من التّركيز على ركوده، وعلى صانعي القرار أن يفكّروا في مستقبل الأجيال القادمة. والحقيقة أنّ صنع القرار ليس جهدًا فرديًّا، بل هو أمر يتكوّن عبر تراكم الخبرات المختلفة وتكاتف الأيادي.
لا يخفى هنا دور المعلّمين/ات الأساس في تغيير واقع اليوم وبناء مستقبل الأجيال القادمة، لا سيّما من خلال جعل صفوفهم التّعليميّة مساحات فكريّة تغذّي عقليّة التّساؤل. كما نذكر في كتيّبنا المجّانيّ "تعزيز عقليّة التّساؤل" أنّ أهمّ سمات أصحاب هذه العقليّة تكمن في عدم أخذهم بظاهر الأمور، بل في مثابرتهم على بحثهم للاستفسار عنها والتّعمّق بها، تمامًا كما فعل "صليبا". لذلك، من المهمّ أن يوقظ المعلّمون/ات فضول تلاميذهم من خلال التّعرّف إلى سمات عقليّة التّساؤل أوّلًا، وجعل صفوفهم مساحة آمنة ومفتوحة للتّساؤلات النّقديّة ثانيًا. وللغوص أكثر في هذا الموضوع، تفقّدوا مدوّنتنا الّتي تتمحور حول عقليّة التّساؤل عبر هذا الرّابط، والّتي تحوي في آخرها الكتيّب المجّانيّ أيضًا.
فلنكن، نحن وتلاميذنا، من مغيّري واقع اليوم وصنّاع قرار الغد ومتبنّي عقليّة التّساؤل!