لغة النّاس مع "منذر يونس"
تفكيك أساطير عن اللّغة العربيّة
"لمَ لا يمكننا الاستمتاع بتعليم اللّغة العربيّة كالاستمتاع بتعليم الفرنسيّة والإنكليزيّة واليابانيّة؟ ولماذا نقاربها بشعور الذّنب والتّقصير؟"
هكذا يتساءل العالم اللّغويّ "منذر يونس" في بودكاست "سردة بعد العشاء"، حيث يتحدّى الأساطير الّتي تحاوط تعلّمنا للّغة وتعليمنا إيّاها. كما يطرح مقاربته للّغة العربيّة الّتي يعتبرها كنزًا يجب اكتشافه بشغف بعيدًا من أساليب الحفظ التّقليديّة وغير التّفاعليّة.
لعلّ النّقطة الأهمّ، الّتي يذكرها "منذر" في هذه المناقشة، هي أهمّيّة الابتعاد عن شعور الذّنب والتّقصير تجاه اللّغة العربيّة، ومعاملتها معاملة صحّيّة باعتبارها لغة تخدم مستعمليها وتلبّي حاجتهم في التّواصل والكتابة، بالإضافة إلى كونها لغة جميلة ومعبرّة أيضًا.
لكن ما هي جذور الشّعور بالذّنب؟ وما أبعاده؟ كما يقول "منذر": "إنّ أسوأ ما يمكن أن يحصل، وهو أمر يحصل للأسف، هو فرض اللّغة العربيّة الفصحى كلغة النّاس، والافتراض أنّه علينا التّكلّم في حياتنا اليوميّة كما يتكلّم مذيعو نشرات الأخبار". من هذا المنظور، تصبح لغة النّشرات نموذجًا يحتذى به، فيشعر متكلّمو العامّيّة بالذّنب تجاه لغتهم الأمّ، ممّا ينتج ابتعادًا عن اللّغة وانشطارًا عن الهويّة. ويتجلّى هذا الابتعاد عن اللّغة في مظاهر عديدة بدءًا من المحادثات اليوميّة، إذ يلجأ غالبيّة متكلّمي العربيّة إلى دمجها مع لغات أجنبيّة أخرى لإكمال فكرة ما أو إيصال شعور معيّن.
يعود بنا "منذر" إلى أرض الواقع ليطمئن مستمعيه أنّ المقاربة السّابقة هي تطرّف لغويّ حادّ، فالفصحى لغة كتابة وعلم أكثر من كونها لغة محكيّة، مع العلم أنّه لا يوجد توثيق يؤكّد أنّ العرب كانوا يتكلّمون بقواعد الإعراب سابقًا ولا حتّى اليوم. فلماذا الإصرار إذًا على نموذج لغويّ كلاميّ لم يكن موجودًا يومًا؟ ولماذا نحمّل متعلّمي اللّغة عبئًا له أضرار جسيمة على الصّعيد النّفسيّ؟
من هنا، يظهر - في مداخلة سابقة لرئيسة منصّة "كم كلمة" الاستراتيجيّة "نسرين المكّوك" مع WISE on-Air - تشابه واضح بين مقاربة "منذر" للّغة العربيّة ومقاربتنا لها، لا سيّما في رؤيتنا المعاصرة الّتي نحرص من خلالها على بناء متعلّم متحفّز ومحبّ للّغة بصرف النّظر عن مستوى معرفته بها. وعلى سبيل المثال، تقرّ "نسرين" أنّ مقام الفصحى العالي والصّعب مقارنة باللّغة المحكيّة يشكّل عائقًا أساسًا أمام ترغيب التّلاميذ في تعلّم لغتهم الأمّ، وهو أمر توصّلنا إليه من خلال الاستماع إلى وجهات نظر تلاميذنا منذ بداية تأسيس المنصّة.
وطبعًا، نحن لا ننكر أنّ للّغة العربيّة تاريخًا عريقًا هو محطّ فخر لناسها وشعوبها، لكنّ الإصرار على الاحتفاظ باللّغة الفصحى المكتوبة من دون مواكبة التّطوّر اللّغويّ لن يخدم اللّغة بشكل إيجابيّ. هذا الصّدام بين التّاريخ ومواكبة الحاضر لن يقرّب متعلّمي اللّغة منها، وبخاصّة جيل الشّباب؛ بل ستربطهم بها علاقة خوف وعبء بدلًا من الشّعور بالانتماء والرّغبة في التّعلّم. لذلك، من المهمّ أن نؤكّد في تعليمنا اللّغة أنّها لغة سهلة وعاديّة مثل أيّ لغة أخرى، وأنّها تقوم بمهمّتها الأساس أي تمكيننا من التّواصل مع بعضنا بعضًا لتبادل وجهات النّظر، ومناقشة مشكلة ما وطرح حلّ لها، وهكذا دواليك. انطلاقًا من هذه الرّؤية، جمعنا في مكتبتنا موارد معاصرة مستوحاة من حياة تلاميذنا اليوميّة، كما سعينا إلى خلق مساحات للتّعبير عن مشاعرهم بالعربيّة، ليفرحوا بلغتهم ويحزنوا من خلالها أيضًا. فننمّي بهذه الطّريقة حبّ اللّغة في نفوس جيل اليوم لتصبح جزءًا لا يتجزّأ من هويّتهم الثّقافيّة.
نختم مدوّنتنا اليوم بسؤال يشغلنا منذ القدم: هل اللّغة العربيّة فعلًا في خطر؟ وما هي عوامل هذا الخطر، إذا وُجد؟
يقرّ "منذر" أنّ فرضيّة "الخطر" لا تشغله على الإطلاق، بل هي أقرب للأسطورة، فأيّ خطر هذا بوجود ما يقارب ٤٠٠ مليون عربيّ يتكلّمون اللّغة، ويتواصلون عبرها، أو يكتبونها؟ وكيف تزول لغة كهذه؟ بنظر "منذر"، لن تشكّل اللّهجات المختلفة خطرًا على العربيّة إذا ما اعتبرناها امتدادًا متطوّرًا للّغة. أمّا تعلّم اللّغات الأجنبيّة، فهو عامل إثراء ثقافيّ ما دمنا بعيدين عن استبدال لغتنا بلغات أخرى. ومن خلال زرع حبّ تعلّم العربيّة في نفوس التّلاميذ، يمكننا إعادة إحياء رغبتهم في استكشافها بشغف بعيدًا من مشاعر الخوف والذّنب.
وأخيرًا، كما يقول الفيلسوف "ويتغنستن": "لغتي هي عالمي، وحدود لغتي هي حدود هذا العالم". قد تضيّق اللّغة نظرتنا للعالم، وقد تساعدنا في اكتشافه بشغف من منظور وسعه حدود السّماء. ولأنّنا نريد رؤية إيجابيّة للّغة، نريد لمتعلّميها أن يحظوا بفرصة ليستمتعوا بلغتهم وليذوقوا طعم النّجاح من خلالها كقرّاء وكتّاب ومتحدّثين بالعربيّة.