كَلِماتٌ قَيِّمَةٌ مَعْدودَةٌ خَيْرٌ مِنْ بَحْرِ هَذَرٍ
مُنْذُ زَمَنٍ بَعيد، كانَ مَلِكٌ يَعيشُ بِرَفاهَةٍ مَعَ خادِمٍ حَكيمٍ قَليلِ الكَلام، هادِئٍ وَإيجابيّ. كانَتْ صِفاتُهُ سَبَبًا ليُفَضِّلَهُ المَلِكُ عَلى كُلِّ خُدّامِه، وَيَسْتَشيرَهُ في اتِّخاذِ قَراراتِه. لَقَدْ كانَ رَدُّ الخادِمِ للمَلِكِ ثابِتًا دائِمًا: "نَعَم، أُوافِقُ يا سَيِّدي"، حَتّى في الأُمورِ الصَّعْبَة.
ذاتَ يَوْم، اِنْقَطَعَ إِصْبَعُ المَلِكِ بِالكامِلِ وَمَلأَ الحُزْنُ قَلْبَهُ إِذْ يَجِبُ أَلّا يَكونَ في المَلِكِ أَيُّ عَيْبٍ أَوْ تَشْويه. فَنادى خادِمَهُ المَحْبوبَ وَقالَ لَه: "اُنْظُرْ ماذا حَصَلَ لإِصْبَعي، أَتَظُنُّهُ خَيْرًا؟"
رَدَّ الخادِم: "نَعَمْ يا سَيِّدي".
بَعْدَ سَماعِ قَوْلِ خادِمِه، تَرَجْرَجَ حَبْلُ الثِّقَةِ بَيْنَهُما وَانْفَجَرَ المَلِكُ غَضَبًا وَقال: "كَيْفَ لِهَذا أَنْ يَكونَ خَيْرًا؟ سَأَلْتُكَ مُتَمَنّيًا نَصيحَةً أَوْ مُساعَدَةً وَهَذا ما أَحْصُلُ عَلَيْه؟ اِذْهَب، لا أَوَدُّ رؤْيَتَكَ مُجَدَّدًا".
أَطْرَقَ الخادِمُ رَأْسَهُ مُمْتَنِعًا عَنِ الرَّدِّ وَخَرَجَ ليُكْمِلَ حَياتَهُ في مَكانٍ آخَر.
في اللَّيْلَةِ الثّانيَة، حَلَّ السُّكونُ بِالمَكانِ بَعْدَ انْتِشارِ خَبَرِ اخْتِفاءِ المَلِك، وَعِنْدَما عادَ كانَ سَليمًا، وَأَوَّلُ ما طالَبَ بِهِ هوَ عَوْدَةُ خادِمِه. هُنا، تَطَفَّلَ النّاسُ وَتَدَخَّلوا ليَعْلَموا ما حَدَثَ لِمَلِكِهِمْ فَسَأَلوهُ عَمّا جَرى وَأَجابَهُمْ قائِلًا: "لَقَدْ تَمَّ خَطْفي مِنْ قِبَلِ عِصابَةٍ تُتاجِرُ بِالبَشَر، وَعِنْدَما رَأَوْا إِصْبَعي أَخْلَوْا سَبيلي لأَنَّني لا أَنْفَعُهُم، فَلَوْلا خَسارَتي إِصْبَعي لَما كُنْتُ هُنا الآن، وَلَوْ تَوَسَّلَ إِلَيَّ خادِمي للبَقاءِ في العَمَلِ لَكانَ هوَ مَكاني".
عِنْدَها، سَمِعَ الكَلامُ قِصَّةَ المَلِكِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَمالُكَ أَعْصابِهِ فَوَقَفَ ليُدافِعَ عَنْ شَرَفِه: "هَذِهِ القِصَّةُ غَيْرُ مَنْطِقيَّة، كَيْفَ للخادِمِ أَنْ يُكْمِلَ حَياتَهُ كَأَنَّ أَمْرًا لَمْ يَحْدُث؟ فَكُلُّ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ القِصَّةُ هوَ عَدَمُ وَفاءِ الخادِمِ لِمَلِكِه، وَالآنَ نَعْتَبِرُ أَنَّ عَدَمَ وَفائِهِ هوَ سَبَبُ نَجاتِهِما؟"
وَقَفَ الصَّمْتُ بِهُدوءٍ وَرَدَّ قائِلًا: "بِالطَّبْعِ لا، المَقْصودُ أَنْ تَتَقَبَّلَ مَصيرَكَ وَتَعْتَرِفَ بِذَكاءِ الخادِمِ وَرِباطَةِ جَأْشِهِ إِذْ بَقيَ هادِئًا وَرَدَّ عَلى المَلِكِ بِما يَفْهَمُهُ فَقَط. فَلَوْ فَعَلَ كَما أَرادَ المَلِك، أَنْ يَنْصَحَهُ بِطَريقَةٍ لإِصْلاحِ إِصْبَعِه، لَكانَ مَصيرُ المَلِكِ المَوْتَ أَوِ الضَّياع... كَما أَنَّ الخادِمَ لَمْ يَعْتَبِرْ فُقْدانَ أَحَدِ الأَصابِعِ الخَمْسَةِ مُشْكِلَةً كَبيرَة، بَلْ فَخْرُ المَلِكِ وَعِزَّةُ نَفْسِهِ لَمْ يَتَقَبَّلا ذَلِك".
فَقالَ الكَلامُ مُجادِلًا: "كَلامُكَ ذو مَعْنى، لَكِنْ لَوْ قالَ الخادِمُ كَلامًا مَنْطِقيًّا وَنَصَحَ المَلِكَ بِتَفاؤُلٍ بَدَلَ رَدِّهِ غَيْرِ المُرْضيّ، ماذا كانَ سَيَخْسَر؟"
ـ "سؤالٌ جَيِّد، إِلّا أَنَّني لا أَرى فائِدَةً في تَغْييرِ قَوْلِه، إِذْ إِنَّ المَلِكَ طَلَبَ إِلى الخادِمِ الحَكيمِ طَريقَةً تُساعِدُه، فَلَوْ نَصَحَهُ أَوْ أَجابَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَبَقيَ الخادِمُ مَعَ المَلِكِ وَأَصْبَحَ مَصيرُهُ مَجْهولًا".
ـ "لِنَقُلْ إِنَّني فَهِمْتُكَ بِشَكْلٍ صَحيح، أَتَقْصِدُ أَنَّ الحَظَّ كانَ حَليفَهُما؟"
ـ "طَبْعًا، فَقِلَّةُ الكَلامِ أَفادَتْهُما، في حينِ أَنَّ الثَّرْثَرَةَ كانَتْ سَتَتَسَبَّبُ بِهَلاكِهِما. الكَلامُ القَليلُ وَالصَّمْتُ، يا عَزيزي، يُنَجّيانِكَ في مُعْظَمِ الأَحْيان، لِذا تَكَلَّمْ في ما تَفْهَمُهُ وَتَعْرِفُهُ وَأَبْدِ رَأْيَكَ في ما تَعْتَقِدُهُ صَحيحًا مِنْ دونِ أَنْ تُجْبِرَ غَيْرَكَ عَلى العَمَلِ بِه، وَاكْتَفِ بإيصالِ فِكْرَتِكَ وَعَلى الآخَرِ تَقَبُّلُها أَوْ رَفْضُها. فَقَدْ صَدَقَ مَنْ قال: "لِسانُكَ حَصانُكَ إِنْ صُنْتَهُ صانَكَ وَإِنْ خُنْتَهُ خانَك"، لِذا، يَضيعُ النّاسُ بِالثَّرْثَرَةِ وَالكَلامِ الفارِغِ وَالكَذِبِ أَحْيانًا لإِظْهارِ أَنَّ وِجْهَةَ نَظَرِهِمْ صَحيحَة... وَهَذا الأَمْرُ يُظْهِرُ جَهْلَهُم.
أَمّا أَصْحابُ الصَّمْتِ فَيَسْمَعونَ الآراءَ أَوَّلًا ثُمَّ يُفَكِّرونَ فيها. وَهَذا ما يُمَيِّزُهُمْ عَنْ غَيْرِهِم، إِذْ إِنَّ التَّروّيَ يُغيِّرُ حَياةَ الكَثيرينَ بِطَريقَةٍ إيجابيَّة".
أَفْحَمَ الصَّمْتُ خَصْمَهُ وَلَمْ يَبْقَ للكَلامِ ما يَقولُه، فَالصَّمْتُ هُنا بَطَلُ الحَلَبَة. أَمّا الكَلامُ فَسَكَتَ وَرَحَلَ جارًّا ذَيْلَهُ وَراءَهُ مَهْزومًا. وَهَذا يؤَكِّدُ صِحَّةَ القَوْلِ الشّائِع: "إِذا كانَ الكَلامُ مِنْ فِضَّةٍ فَالسُّكوتُ مِنْ ذَهَب".
هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "زينب عبد الرّحمن" بإشراف المعلّمة "رائدة محمّد" في الصّفّ العاشر من "مدارس الظّفرة الخاصّة/ العين/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2019-2020.