الذِّكْرى الخالِدَةُ

 
 
 
 

كانَتْ تمشي كعادتِها، كُلَّ خَميس، في السّوقِ المجاورِ لبيتِها، تتنقّلُ بينَ بِقالةٍ وأُخْرى، تَشْتري أُمورًا بَسيطةً تبعثُ في نفسِها السَّعادَة. بدأَتْ عادَتَها هذهِ منذُ خمسِ سَنَوات، منذُ تلكَ الحادِثَةِ الَّتي غيَّرَتْ حَياتَها وَجَعَلَتْها شَخْصًا آخَر. 

قبلَ خمسةِ أعْوام، كانَتْ تجلسُ هيَ وَعائلتُها، تحتَ أَقْدَمِ شجرةٍ في البلدة، يتحدّثونَ ويتسلَّوْنَ ويتأمَّلونَ الطّبيعةَ بعدَ أيّامٍ منَ الضُّغوطِ والتّعَب. في هذهِ الأثْناء، جاءَ رجلٌ عجوزٌ مُرْتَكِزًا عَلى عَصاه، فَقامَ والدُها بِاسْتقبالِهِ أحسنَ استقبالٍ وَأطعمَهُ منْ طعامِهمْ وَشَرابِهم... والغريبُ في الأمرِ أنَّ تَقاسيمَ وجهِهِ تُشبِهُ إلى حدٍّ كبيرٍ تَقاسيمَ وجْهِ والِدِها، فاستمرَّتْ بالتّحديقِ إليْهِ طَويلًا وانْتابَها شعورٌ بالخَوْف... فَقالَ لها العَجوز: "أراكِ خائفةً يا "سارة"."

اِرتعبَتْ أكْثرَ عندَما ذَكَرَ اسْمَها ثمَّ سألتْهُ: "كيفَ عرفْتَ اسْمي؟ هلْ أعرِفُكَ يا عَمّ؟ منْ أنْت؟"

ـــــ "يا عمّ؟" ضَحِكَ ضَحْكَةً خفيفةً ثمَّ قال: "أتيْتُ منَ الكهفِ وأعرفُكِ جيِّدًا يا عَزيزتي، أعرفُ تفاصيلَكِ كُلَّها، أعرفُ كُلَّ منْ يجلِسُ هُنا لكنَّني لا أعرفُ كيفَ ستصبحونَ بعدَ عِشرينَ عامًا مِنَ الآن، قولي لي، هلْ تَعرفينَ كيفَ ستُصْبِحينَ بعدَ عِشْرينَ عامًا؟"

ـــــ "وَكيفَ لي أنْ أعرِف؟ أَنا لا أعلمُ ما سيحدثُ بعدَ ساعَة!"

ـــــ "لنْ تعرِفي مَهْما حاوَلْتِ، لكنْ يُمكنُكِ أنْ تتحضَّري للمستقبلِ بَدْءًا منَ اليَوْم".

قالَ كلامَهُ هذا ثمَّ ضربَ والدَها على رأسِهِ ضربةً قاتلةً وَتوارى عنِ الأنظارِ وتركَهُمْ غارِقينَ بِصَدْمَتِهِم.

بعدَ الحادِثَة، باتَتْ تَشْعُرُ أنَّها مُجرّدُ خيالٍ أوْ شَخْصٌ غَيْرُ مَرْئيّ، وَأنَّ كلَّ ما حدثَ ما هوَ إلّا خَيالٌ وأنَّ الحقيقةَ ما هيَ إلّا خُدعةُ الزَّمنِ الّتي تكسِرُ الضُّعفاءَ وتُتْعِبُهُم. وَها قدْ مضَتِ الأيّامُ وسؤالُ الرّجلِ العَجوز، "كيفَ سَتُصْبحينَ بعدَ عشرينَ عامًا؟"، يُلازمُ عقلَها لِغَرابتِهِ وَغُموضِ هَدَفِه. فَقرَّرَتْ أنْ تكتبَ لعلَّ الكتابةَ تُساعدُها في المُضيِّ قُدُمًا، لعلَّ الكلماتِ المكتوبةَ على الورقِ تجعلُها تشعُرُ أنَّها حَقيقيَّة. لذلِكَ قَرَّرَتْ في ذلِكَ اليَوْم، يومِ الخَميس، أنْ تذهبَ إلى السّوقِ الشَّعْبيِّ لشراءِ الدَّفترِ الَّذي سَيَحْمِلُ في طَيّاتِهِ حِكايَةً نِهايَتُها مَجْهولَة، لَكِنَّ تَفاصيلَها جُزْءٌ منَ الرّوح.

بدأَتْ بالكتابةِ ولمْ تكنْ كَأيِّ شخصٍ عاديٍّ يكتُب، فَكتابتُها كانَتْ مِفْتاحًا لِحَلِّ لُغْزٍ حَصَلَ قبْلَ خمسِ سَنَوات، وَبِالتّالي بدأَتِ الكلماتُ تنسابُ انسيابًا مُتَناسِقًا وَكأنَّها كانَتْ أمامَ البابِ تنتظرُ تَدفُّقَها. وَهَكَذا، في ليلةٍ واحدةٍ كتبَتْ كُلَّ ما بِداخِلِها وَبكَتْ بِقوَّة، واستيقظَتْ منَ الخيالِ وانْغَمَسَتْ في الواقعِ الَّذي لا يعترفُ بِهِ إِلّا مَنْ رَضيَ بِالحَقيقَة.

في اليَوْمِ التّالي، اِسْتَجْمَعَتْ قِواها وَذَهَبَتْ إلى مَوْقِعِ الحادثةِ وجلسَتْ تحتَ تلكَ الشّجرةِ مُسْتَرْجِعَةً أَحْداثَ الفاجِعَةِ الَّتي حدثَتْ، ثمَّ قرّرَتْ أنْ تبحثَ في كلِّ كهفٍ في البلدةِ لَرُبَّما يَكونُ الجوابُ قَريبًا مِنْها، فَرَكِبَتِ العربةَ لتعودَ أدْراجَها إلّا أنَّ امْرأةً اعْتَرَضَتِ الطَّريقَ أمامَها، فَنَزَلَتْ لِتَرى سببَ وُقوفِها وَسَطَ الطَّريقِ مِنْ دونِ أيِّ خَوْف، فسألَتْها: "منْ أنتِ؟"

ـــــ "جِئْتُكِ منَ الكهفِ يا عزيزتي، إنَّ العجوزَ يُحْتَضَرُ وَيرغبُ في رؤْيتِكِ سَريعًا".

ـــــ اِسْتغربَتْ "سارةُ" قائِلَةً: "كيفَ علِمْتِ أنَّني أَبحثُ عنْ كهفِ العَجوز؟"

ـــــ "إنَّ العجوزَ يُراقِبُكِ منذُ زَمَن، لكنَّ أجَلَهُ قدِ اقْتربَ ويُريدُ أنْ يَراكِ".

ـــــ "وَمنْ تكونينَ أنْتِ؟ وَكيفَ تعرَّفْتِ إليْه؟"

ـــــ "أَنا خادِمَتُه".

اِنْطَلَقَتا سَويًّا في العربةِ مُتَوَجِّهَتيْنِ إلى الكهفِ وَقلْبُ "سارةَ" يَخْفِقُ بِقوَّة، وَعِنْدَما وَصلَتا اخْتَفَتِ الخادمةُ وَبَقيَتْ هيَ وحيدةً أمامَ مَدْخَلِ الكَهْفِ تَنْظُرُ بتوتّرٍ وعينيْنِ دامِعَتَيْن، كيْفَ لا وَهيَ عَلى وَشْكِ أنْ تلتقيَ بِقاتلِ أَبيها؟! وَبِخُطواتٍ مُتَرَدِّدَةٍ دخلَتْ وَهيَ تتلفَّتُ حَوْلَها بِخَوْف، فَوَجَدَتْ رَجُلًا يجلِسُ على كُرسيٍّ خشبيٍّ قَديم، وَأمامَهُ طاوِلةٌ صغيرةٌ عَلَيْها فُتاتٌ منَ الخُبْزِ وَفَخّارَةُ ماءٍ وَخَلْفَهُ عَلى الأرضِ كُتُبٌ مَنْثورةٌ هُنا وهُناك، ثمَّ قالَتْ: "هلْ تعيشُ هُنا؟" 

ـــــ "أَجَل".

ـــــ "لا أراكَ تُحْتَضَر! كيفَ علِمْتَ أنَّني أبحثُ عَنْكَ؟"

ـــــ "علِمْتُ لأنَّني أعيشُ داخِلَكِ".

ـــــ "كيفَ ذلِك؟"

ـــــ "قبلَ خمسِ سنواتٍ زرعْتُ فيكِ ذِكرى تَخُصُّني".

ـــــ "زرعْتَ ذِكْرى في نَفْسي بِقَتْلِكَ أَبي؟ إنَّها ليسَتْ ذِكْرى إنَّما ظُلْمٌ وَأَلَم، لقدْ زرعْتَ في نَفْسي الأَلَم".

ـــــ "صَحيحٌ يا "سارة"، فَالألمُ يَبْقى في القلبِ وَلا يَموت، لكنَّهُ يوقِظُ الرّوحَ مِنَ السُّبات، يَجعلُها تَبْكي، تُفكِّر، تَتَمنّى، وَتَحْلُمُ بِالتَّعْويضِ وَتَسْعى إليْه. فَالألمُ يَجْعلُكِ تَكْتَشِفينَ نفسَكِ ومنْ دونِهِ تَظَلّينَ نَكرةً وَجَمادًا، تَموتينَ وَتُصْبحينَ ماضيًا مَنْسيًّا لا قيمَةَ لهُ وَمُجرّدَ ذِكْرى عَلَيْها غُبارٌ لا أَحَدَ يَنْفُضُه؛ وَلوْلا تلكَ الحادثةِ لَبَقيتِ عالقةً في الوَهْمِ وَالخَيال، ليسَ الواقِعُ هوَ الخُدْعَةَ بَلِ الخَيالُ يا "سارة"، لقدْ بَقيتِ في الخيالِ سَنَواتٍ طويلةً مُتَناسيَةً الواقِعَ وَما فيهِ منْ أحْداث، فَما منْ أمرٍ يُعيدُ الإنْسانَ إلى وَعْيِهِ وَعَقْلِهِ سِوى ضَرْبَةٍ قويّةٍ تُتْعِبُهُ لكنَّها تُبْقيهِ عَلى قَيْدِ الحَياةِ كيْ يتذكَّرَ ضَرْبَتَهُ وَألمَهُ وَيَسْعى إلى مُعالجتِهما.

ـــــ "لَكِنْ لِماذا أنا؟ لِماذا يَعْنيكَ أَمْري إلى هَذا الحَدّ؟"

ـــــ "سَتَعْلَمينَ في الوَقْتِ المُناسِب".

خَرجَتْ باكيةً وَسؤالٌ واحدٌ يدورُ في رأسِها "لِمَ كُلُّ هَذا؟"؛ وصلَتْ إلى بيتِها، وألقَتْ بنفسِها عَلى السَّرير. وَبعدَ ليلةٍ كامِلةٍ منَ البُكاءِ والضَّياعِ والحَيْرَة... قَرّرتْ ألّا تترُكَ الماضيَ يؤْلمُها، وأنَّها لنْ تموتَ قبلَ أنْ تضعَ بصمةً تُخَلِّدُ اسْمَها واسْمَ والِدِها، فَالألمُ الَّذي عاشَتْهُ وَالصَّدْمةُ الَّتي تلقَّتْها قبْلَ خَمْسِ سنواتٍ أيقظَتْها، فَوالدُها لمْ يمُتْ، ما زالَ حيًّا في الرّوح.

عادَتْ وَتوجَّهَتْ مُسْرِعَةً إلى مَكانِ الحادثةِ ووجدَتِ العَجوزَ ينتظرُها، فَذَهَبَتْ إليْهِ وَحَضَنَتْهُ بِكلِّ قوَّتِها وقالَتْ: "اِشْتَقْتُ إليْكَ كَثيرًا يا أبي". الرَّجلُ كانَ وَهْمَها وَخَوْفَها مُتَشَكِّلَيْنِ عَلى هيئةِ عجوزٍ يُشبِهُ والِدَها لأنَّ خوفَها منْ فُقْدانِهِ نَتيجَةَ مَرَضِهِ أَعْماها عنِ الحَياة. صَحيحٌ أنَّ والدَها ماتَ، لكنَّهُ لمْ يمُتْ قَتْلًا بلْ نَتيجَةَ مَرَضِه.

كُلُّ تَفاصيلِ الحادثةِ منذُ سنواتٍ كانَتْ خَيالًا يُبْعِدُها عنِ الحقيقةِ لِضُعْفِها، وَعِنْدَما تَقَبَّلَتْها شَعَرَتْ بِكيانِها، وَعادَتْ إلى حَياتِها وَبَيْتِها حامِلَةً قلْبَها المَليءَ بِالحَياة، عِنْدَها شعرَتْ أنَّها لنْ تموتَ وستبقى حَيَّةً إلى الأَبَد.

وَبعدَ مُرورِ خمسةِ أعْوامٍ أُخْرى، نَشَرَتْ كِتابَها الَّذي يتضمّنُ ما كَتَبَتْهُ في ذلكَ الدَّفْتَر. هَذا هوَ حُلْمُها الَّذي عَرَفَتْ طَريقَهُ أَخيرًا: "أَنْ تَدومَ وَتُخَلِّدَ بَصْمَتَها في هذهِ الحَياةِ حَتّى بَعْدَ رَحيلِها".

هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "سنا ساهر" بإشراف المعلّمة "هند عبد السّتّار" في الصّفّ الحادي عشر من "مدرسة العالم الجديد الخاصّة/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.

Previous
Previous

جامِعُ الأَحْلامِ

Next
Next

الصَّداقَةُ وَحُسْنُ الظَّنِّ