جامِعُ الأَحْلامِ

 
 
 
 

"تَمَنَّ أُمنيةً قبلَ إطفاءِ الشُّموع"، اِقْتباسٌ يَحُثُّ النّاسُ وَالآباءُ أبناءَهُمْ عليْهِ منذُ صِغَرِهِم، فيُقالُ في المُناسباتِ الِاحْتِفاليّةِ مِثْلَ أَعيادِ الميلادِ قبلَ النَّفْخِ عَلى الشُّموع. تَقولُ الأساطيرُ إِنَّ هذهِ الأُمنياتِ تتحقّقُ بِهذهِ الطَّريقَة، لكنَّنا لا نعرِفُ إلّا القَليلَ، فَهناكَ ما هوَ أكبرُ وَأعظمُ مِمّا نَعْتقدُهُ في واقعِ هذهِ الأَساطير.

عندَ نَفْخِ الشُّموع، يُحلِّقُ نحوَ الدّخانِ كائِنٌ يُشبِهُ الكلبَ معَ فارقٍ بسيطٍ أنَّهُ يَمْلِكُ أَجنحةً وَيَخترقُ الجُدْران. هوَ مَحْجوبٌ عنْ عيْنِ الإِنْسانِ فَلا يَراهُ أوْ يشعُرُ بهِ وَكأنَّهُ شَبَح. يَشُمُّ الكلبُ الدُّخانَ وَيَمْتَصُّ رائِحتَهُ فَيَدورُ صَوْتُ أُمْنيةِ الإِنْسانِ في ذهنِهِ ويبدأُ مِشْوارَهُ إلى مملكةِ الأَحْلام.

في بيتٍ صغيرٍ خشبيٍّ، تَعيشُ أُسرةٌ تَتَكَوَّنُ منْ أمٍّ وطفلٍ في الثّامِنَةِ منْ عمرِه، وَكانتْ أرواحُ الحزنِ وَالِاكتئابِ تعيشُ معَهُما؛ فَالوالدةُ أرملةٌ تملأُ وقتَها بالعملِ في اللّيلِ والنّهارِ لِتَنْسى ذِكْرى زوجِها المُتَوَفّى. وَلِكَثْرَةِ حُزنِها اِلْتَهَمَتْ أفكارُها وُجودَ طفلِها المشرَّدِ الَّذي يعيشُ وحيدًا في هذا العالَم. عاشَ الولدُ حياتَهُ مُتَأَمِّلًا بِحَياةٍ خاليةٍ منَ الحُزْن، وَعِنْدَما حانَ يومُ ميلادِهِ، قرَّرَ أنْ يَخبِزَ كعكةً ليَنْفُخَ شَمْعَتَها وَيَتَمَنّى السَّعادةَ لأُمِّه.

كانَ الكلبُ شديدَ الحزنِ عندَ مَعْرِفَتِهِ حُلْمَ هَذا الطِّفلِ الصَّغير، فَأَصَرَّ، بالعَزيمةِ والقوَّةِ، عَلى إِرْسالِها إلى المَلِكِ بِأَسْرَعِ وَقتٍ ليَنْشُرَ السَّعادةَ وَالبَهْجةَ في بيْتِهِما.

حلّقَ الكلبُ في السَّماءِ بِاتِّجاهِ المملكةِ وهوَ مُنْغمسٌ في الخَيالاتِ وَالأَحْلامِ الَّتي جَمَعَها. كانَتِ الرّياحُ شَديدةً وَالغُيومُ كَثيفَةً لكنَّهُ لمْ يُعِرْها اهْتِمامًا. فَجْأةً، بدأَ المطرُ يَعُمُّ السَّماء، فاسْتيقظَ الكلبُ منْ تَخيُّلاتِهِ مُلاحِظًا غَيْمَةً كَبيرَةً سَوْداءَ تُسْرِعُ بِغَضَبٍ نَحْوَه، فَبَدأَ الكلبُ يَطيرُ بِعَجَلَةٍ وَيُحلِّقُ ليجِدَ مَأْوًى يختبئُ فيهِ منْ هذهِ العاصفةِ الحاقِدَة. اِخْتَبَأَ الكلبُ في صُندوقٍ مُبَلَّل، وَحدّقَ إلى السَّماءِ بِاسْتِغْرابٍ مُتَسائِلًا في نفسِهِ عَمّا يَحْصُل: "تَبْدو السَّماءَ غاضِبةً عَليَّ…". شَعَرَ بِالإِحْباطِ والخجلِ منْ عدمِ قُدْرتِهِ على إرسالِ الأَحلامِ بالسُّرْعةِ الَّتي وَعَدَ نفسَهُ بِها.

بعدَ قَليل، بدأَتْ عَيْناهُ تَسْتَسْلِمانِ للنَّوْمِ بسببِ هِدْأَةِ صَوْتِ المَطَر، إِلّا أَنَّهُ سَمِعَ صوتَ خُطواتٍ تَقْتَرِب، فَرَفَعَ رأسَهُ وَفتحَ عيْنيْهِ لِتَحْديدِ مَصْدَرِ الصَّوْت، ثُمَّ ظهرَ أمامَهُ كلبانِ آخَرانِ وَعلى قَدَمَيْهِما طِلاءٌ أَحْمَرُ وَأَزْرَقُ فَعَرَفَ أنَّهما حُرّاسُ مَمْلَكَةِ الأَحْلام. نَظَرَ إليْهِما بِأَمَلٍ وَوَجْهٍ تَغْمُرُهُ السَّعادةُ لكنَّ وَجْهَيْهِما لمْ يوْحيا بِالتَّرْحيب.

أَمْسَكَ كُلُّ حارِسٍ طَرَفَ الكَلْبِ وَفَتَحا البوّابةَ الخَياليَّةَ المَوْقوتَةَ للمملكةِ وَأَخَذاهُ إلى المَلِك. "هلْ هذا هوَ الجَرْوُ الضَّعيفُ الَّذي حقّقَ أُمنيةً تُخالفُ القَوانين؟" سألَ المَلك.

ـــــ "نَعَمْ يا مَوْلاي". ردَّ الحارسُ عنْ يمينِ الكَلْب.

ـــــ "اِرْمياهُ في السِّجْن".

نَظَرَ الكلبُ إلى الملكِ بِتَعجُّبٍ وَدَهْشَة، وبعْدَ أنْ فَهِمَ ما حدثَ أمامَهُ اِرْتَعَبَ اِرْتِعابًا شَديدًا وَراحَ يَصْرُخ: "ماذا فَعَلْتُ يا مَوْلاي؟!"

ـــــ "اِلْزَمِ الصَّمْت".

أَخذاهُ إلى السِّجنِ وَأَغْلَقا البابَ عليْه، وَلكنْ قبلَ أنْ يذهَبا قالَ أَحَدُهُما لَه: "لقدْ خالَفْتَ قَوانينَ الأَحْلام، فَلا يُمكنُ تَحقيقُ كُلِّ حُلْم، تَذَكَّرْ ما فَعَلْتَهُ في السّابِق."

في تِلكَ اللَّحْظَة، تذكَّرَ الكلبُ أمنيةَ رجلٍ في نِصْفِ عُمْرِه فَقَدَ ابْنَهُ في حادِثِ سيّارَة، وَعِنْدَها راحَ نَشيجُهُ يُرَدِّد: "لقدْ أَعَدْتُ ساعَةَ الحَياةِ إلى الوَراء…".

ـــــ "يا غُلام، سَمِّ بِالله".

رفعَ الكلبُ رأسَهُ تُجاهَ الصَّوْتِ قائِلًا: "مَنْ هُناك…؟ لا يُمْكِنُني الرُّؤْيَةُ في بِئْسِ ظَلامِ هَذا العالَمِ المَعْميِّ عَلى قُلوبِ مَنْ فيه…".

ـــــ "يا لإِبْداعِ مَجازِكَ يا بُنُيّ. يَبْدو أنَّ مَصائبَ الحياةِ أَشْعَلَتْ ما كانَ بَذْرَةً وَأصبحَ شَجَرَةً تَحْكي لَنا مُغامَراتِكَ وَمُعاناتِكَ في فَهْمِكَ حَقيقَةَ هذهِ الدُّنيا. أَنا أَرى نَفْسي فيكَ يا شُجاعَ القَلْب".

ـــــ "ماذا تُريدُ يا سَيِّدي؟"

ـــــ "أَنا الشَّبَحُ المَعْروفُ بِوَفاتِهِ في هذهِ الزِّنْزانَة. لَقَدْ عُزِلْتُ منْ واجِباتي كَجامِعِ الأَحْلامِ مِثْلَكَ لأَنَّني خالَفْتُ قَواعِدَ الأَحْلام. كُنْتُ دائِمًا تَوّاقًا لِرؤْيَةِ البَسْمَةِ تَشِعُّ على وُجوهِ المُتَمَنّين، كنْتُ دائِمًا أعملُ بِجِدٍّ وَنَشاطٍ منْ أجلِهِم، وَبعدَ كلِّ هذهِ المَشَقَّةِ وَالعَناء، كانَ جَزائي المَوْتَ المُشْفِق. هَذا ظُلْم… لا أحدَ منْهُم كانَ شاكِرًا للنِّعَمِ الَّتي وَفَّرْتُها لَه، فَعَمَلي الشّاقُّ كانَ بِلا قيمَة". ثمَّ ضحِكَ بِمَرارَة، وَأَكْمَلَ كَلامَه: "أُريدُكَ أنْ تنتقِم، اِنْتَقِمْ لي وَلَك. لا تَدَعْ هَذا الأمْرَ يمُرُّ بيْنَ يديْكَ بِسُهولَة، أَمْسِكْهُ بِصَلابَةٍ وَلا تَتْرُكْهُ، حَقِّقْ حُلْمَكَ وَحُلْمي!"

راحَ الكلبُ يُفكّرُ في قَوْلِ الشَّبَح: "هلْ حُلْمي حَقًّا أَنْ أنتقمَ منَ الجَميع؟ لا يُمْكنُني عَيْشُ حَياتي في السِّجْن، لا أُريدُ ذلِك. وَلكنْ هلْ هَذا هوَ مَخْرَجي الوَحيد؟" عِنْدَما لمْ يجدِ الإِجابةَ عنْ أسئِلتِه، نَهَضَ منْ مكانِهِ وَشَرارةُ الِانْتقامِ تَشتعلُ في عيْنيْه، وبدأَ يفكِّرُ في الخُطَّةِ الَّتي سَيُنَفِّذُها.

في اليَوْمِ التّالي، أَتى الحارِسُ ليُقَدِّمَ الطَّعامَ إلى الكَلْبِ وَرآهُ نائِمًا فَفَتَحَ بابَ السِّجْنِ وَدَخَل، وَبِلَمْحِ البَصَرِ هَجَمَ الكلبُ عَلى المِسْكينِ بِتَوَحُّشٍ فانْتَصَرَ وَذهبَ بِخفّةٍ وَسُرْعَةٍ إلى عَرْشِ المَلكِ سالِكًا المَمَرَّ السِّرّيَّ الَّذي أَخْبَرَهُ عنْهُ الشَّبَح.

كانَ الحِقْدُ يُعْمي الكلبَ لِدَرَجَةِ أنَّهُ لمْ يرَ أمامَهُ فاصْطَدَمَ بِنافورَةِ الأَحْلامِ الَّتي توَجِّهُ ذِكْرياتِ الأُمْنياتِ إلى جامِعِ الأحْلام، فَصَدْمَتُهُ كانَتْ مِثْلَ الصّاعِقَةِ وَذَكَّرَتْهُ باِلأُمْنيَةِ الَّتي وَعَدَ نفْسَهُ أنْ يُحَقِّقَها، كَما شَعَرَ بِالحُزْنِ الشَّديدِ وَالنَّدَمِ لِما كانَ سَيَفْعَلُه. ثُمَّ ظَهَرَ الكلبُ أَمامَ المَلِكِ وَرَأْسُهُ مُنْخَفِضٌ لِشِدَّةِ النَّدَمِ وَقال: "يا مَوْلاي، أَعلمُ أنَّني خالَفْتُ قَوانينَ المَمْلَكَةِ وَتَهَجَّمْتُ عَلى أَحَدِ حُرّاسِك، لكنَّ وَساوِسَ شَبَحِ الزِّنْزانَةِ لَعِبَتْ في دِماغي؛ أَعْلَمُ أنَّ هَذا لَيْسَ عُذْرًا لِما فَعَلْتُهُ وَيُمْكِنُكَ أَنْ تُعاقِبَني أوْ تَسْجُنَني لِمَدى الحَياة، إِلّا أَنَّني أُريدُ فَقَطْ أنْ أحقِّقَ حُلْمَ صَبيٍّ وَعَدْتُ نَفْسي بِأَنْ أُحَقِّقَه".

ـــــ "أَلَمْ يَقُلْ لكَ أَحَدٌ إِنَّ عِقابَكَ كانَ لِشَهْرٍ فَقَط؟ الآنَ أَصْبَحَ لِثَلاثَةِ أَشْهُر. وَلَكِنْ قُلْ لي، مَنْ هوَ هَذا الشَّبَحُ الَّذي تَتكلّمُ عَنْه؟" 

ـــــ "شَبَحُ جامِعِ الأحلام، يا مَوْلاي. قالَ إِنَّكمْ تَركْتُموهُ ليَموتَ في السِّجْنِ لأنَّهُ خالَفَ القَوانين".

ـــــ "أَنا أَعْرِفُ كلَّ سَجينٍ لَكنَّني لمْ أعرفْ عَمَّنْ تتكلَّم".

نَظَرَ الكلبُ إليْهِ بِاسْتِغْراب، إِلّا أنَّ الملكَ قالَ لهُ أَنْ يذهبَ لمُساعدَةِ ذلِكَ الفَتى قَبْلَ أنْ يُغيِّرَ رَأْيَه، فَتَغيَّرَتْ نَظرةُ الكلبِ وَشَكَرَ المَلِك، ثمَّ طارَ مُسْرِعًا ليَبْدَأَ بِالعَمَل.

هذا النّصّ من تأليف التّلميذ "ملك عبد الرّزّاق" بإشراف المعلّمة "رائدة محمّد" في الصّفّ العاشر من "مدارس الظّفرة الخاصّة/ العين/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركته في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.

Previous
Previous

عَزيزي القَلَم

Next
Next

الذِّكْرى الخالِدَةُ