عَزيزي القَلَم

 
 
 
 

كُلُّ القصصِ تبدأُ منَ الصِّفر، لَكِنِ اتَّضَحَ أَنَّني سأبدأُ منْ تحتِ الصِّفر. دَعونا نُعيدُ الشّريطَ إلى الوراءِ قليلًا. أَنا "آدم"، طِفلٌ تَمنّى أنْ يعيشَ حياةً عاديَّة، أنْ يعرِفَ مَعْنى الحَياةِ الطَّبيعيَّة، وَلَكِن…

وُلِدْتُ في الخامِسِ وَالعِشْرينَ مِنْ شهرِ "يَنايِرَ" عامَ أَلْفَيْنِ وَأَحَدَ عَشَرَ، وَطَبْعًا مَيَّزْتُمْ هَذا التّاريخ، إِنَّها ثَوْرَةُ "يَنايِرَ" المِصْريَّة، ثَوْرَةٌ قَلَبَتْ مَوازينَ حَياتي. كانَتْ أُمّي في المُسْتَشْفى ضَعيفَةَ البُنْيَةِ وَهَزيلَة، وَقَدْ كانَتْ وِلادَتي مُبْكِرَةً وَاسْتَغْرَقَتْ أَكْثرَ مِنْ ساعتَيْن؛ أَمّا أَبي فكانَ خارِجًا يتحرَّكُ كالمجْنونِ ذَهابًا وَإِيابًا. وَبِالتّالي، كانَتِ الأوضاعُ غَيْرَ مُطَمْئِنَةٍ وَالكَهْرَباءُ تَنْقَطِعُ بِاسْتِمْرار، إِلى أَنْ سَمِعَ أَبي صَوْتَ بُكاءِ رَضيعٍ منْ غرفةِ العَمَليّات، وَكانَ ذلكَ الصّوتُ مُسَكِّنًا أَدْخَلَ السَّكينَةَ إِلى قلْبِه. ذهبَ ليَطْمَئِنَّ عَلى أُمّي وَالمَوْلود، أيْ أنا، فقالَ لهُ الطَّبيب: "لا تقلقْ، كِلاهُما بِخَيْر، لَكِنَّ زوجتَكَ في المُراقَبَةِ إِذْ عانَتْ مُضاعَفاتٍ في قلْبِها في أَثْناءِ الوِلادَة". تنهّدَ أبي وَذَهَبَ ليَجْلِسَ قُرْبَ أُمّي لِتَراهُ مُبْتَسِمًا حينَ تَسْتَيْقِظ.

بَعْدَ رُبْعِ ساعَة، قَطَعَ شُرودَهُ صَوْتُ إِنْذارِ جِهازِ القَلْب، فَنادى الأَطِبّاءَ مُسْرِعًا، وَأَتَوْا مُهَرْوِلينَ وَقالوا إِنَّها فَقَدَتِ الكَثيرَ مِنَ الدَّمِ في العَمَليَّة، ثُمَّ أَخَذوها إلى العِنايَة، وَفي أَثْناءِ العَمَليَّةِ انْقَطَعَتِ الكَهْرَباءُ وَالموَلِّدُ لَمْ يَعْمَلْ فَفُصِلَ الجِهازُ عَنْ قَلْبِها، ثُمَّ خَرَجَ الطَّبيبُ بَعْدَ عَوْدَةِ التَّيّارِ ناقِلًا جُمْلَةً واحِدَةً اِعْتَدْنا سَماعَها: "لقَدْ فَعَلْنا ما بِوَسْعِنا وَلَكِنْ... رَحِمَها اللَّه".

اِنْهَمَرَتْ دموعُ أبي وَسَمِعَ صوْتَ قلبِهِ ينكَسِر، فَتَوجّهَ إلى الحَضانةِ في قِسْمِ الأَطْفالِ واتَّكَأَ عَلى الزُّجاجِ باكيًا عَلى حالي، طِفْلٌ مِنْ دونِ أُمّ. في اللَّيْل، أَعْلَمَهُ الطَّبيبُ إِنَّني بِحاجةٍ إلى وقْتٍ إضافيٍّ في الحَضانَةِ بِسَبَبِ وِلادَتي المُبْكِرَة، فَرَجِعَ وَحيدًا إِلى المَنْزِل، فاقِدًا مَعْنى الحَياةِ وَطَعْمَها. وَبعدَ أُسْبوع، خَرجْتُ منَ المُسْتَشْفى بِأَفْضَلِ حال، وَكنْتُ سببَ ابْتِسامتِهِ بعْدَ أنْ هَجَرَتْ وَجْهَه.

مَرَّتْ خمسُ سنواتٍ وَأنا لمْ أَنْطِقْ بِكَلِمَة، فَعَرَضَني أَبي على جميعِ الأطِبّاءِ إلّا أنَّ الكَلامَ نَفْسَه: "وِلادَةُ ابْنِكَ المُبْكِرَةُ تسبَّبَتْ في تأخُّرِ الكَلامِ لديْهِ وَقدْ يُعاني منْ مَشاكِلَ في النُّطْقِ كَذَلِك". أَحَسَّ أبي بأنَّ الدُّنيا ظَلَمَتْهُ كَثيرًا، لَكِنَّهُ لمْ يَيْأَسْ منْ رَحْمَةِ رَبِّه، فَهوَ يَعْرِفُ أنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ أمْر. مَرَّتِ الأيّامُ سَريعًا، وَها أَنا في الثّامِنَةِ منْ عُمْري حيْثُ بَدَأْتُ بِالكَلام، لَكِنَّني كنْتُ أتعرّضُ للتّنمُّرِ والسُّخْريةِ منْ قِبَلِ الجَميع، حَتّى المُعَلِّمينَ أَفادوا بِأَنَّهُ لا أَمَلَ مِنّي. وَبَعْدَها لمْ تقبَلْني أَيُّ مَدْرسةٍ بِسببِ صُعوبَتي في النُّطْق.

أَحَسَّ أَبي أَنَّ الدُّنْيا لمْ تَعُدْ تَحْمِلُ الخَيْرَ وَأنَّ النّاسَ تَجرَّدوا منْ كلِّ مَعاني الإِنْسانيَّة، فَبَدَأَتْ حالَتي بِالتَّدَهْورِ وَرُحْتُ أَفْقِدُ نُطْقي شَيْئًا فَشَيْئًا. حاوَلَ أَبي أنْ يُخْرِجَني وَيُخْرِجَ نَفْسَهُ مِمّا نَحنُ فيه، وَأَخَذَ يَقولُ لي بِصَوْتٍ بانَ فيهِ التَّعَب: "سَأقولُ لكَ أَمْرًا يا بُنَيّ، الحَياةُ قاسيَة، وَلَكِنَّ لك رَبًّا رَحيمًا، فَالنّاسُ تَجَرَّدوا مِنْ إنسانيَّتِهِم، لَكِنْ تَمَسَّكْ بِها أَنْتَ وَلا تَنْجرِفْ مَعَهم، بَلِ اسْعَدْ في حَياتِكَ وَلا تُضَيِّعْها فَأَنْتَ مميّزٌ، اِحْلَمْ، اِطْمَحْ، اِسْعَ، وَاسْقُطْ ثُمَّ انْهَضْ، اِنْهَضْ أَقْوى، وَأَكْمِلْ حَتّى تَصِل، وَلا تَقِفْ عنْدَ أيِّ عَقبةٍ لأنَّكَ سَتواجِهُ الكَثيرَ مِنْها".

في تِلْكَ اللَّحْظَةِ نظرْتُ إلى أبي، ورحْتُ أتأمّلُ مِشْوارَ عمرِهِ وَتقدُّمِهِ في السِّنّ، وأَرى عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ أَرْهَقَهُما الزَّمَن... لَكِنْ وراءَ ذلك، أرى نَظْرَةَ تَحَدٍّ؛ كَما أَنْظُرُ إلى شعْرِهِ الّذي غَزاه الشَّيْب، لَكِنَّني أَرى في شَيْبِهِ عَظَمَة؛ أَحْسَسْتُ أنَّ الكلماتِ ستتدفّقُ مِنّي وأردْتُ قَوْلَ الكَثيرِ لَكِنَّني بِتُّ أَسيرَ حُروفي، لمْ أستطِعْ قولَ أَيِّ أمْر. قاطَعَ أبي شُرودي وَهوَ يُمْسِكُ بِيَدي قائِلًا: "دَعْنا نَتَمَشّى". أَخَذْنا نَمْشي وَنَمْشي حَتّى مَرَرْنا بِمَكْتَبَةٍ صَغيرَة، فَأَشَرْتُ إلَيْها لأَنَّني أَرَدْتُ دُخولَها. دَخَلْنا فَرَأَيْنا شابًّا مُبْتَسِمًا يُرَحِّبُ بِنا. أَبي جلسَ وَأَنا رُحْتُ أتجوّلُ وَأنظرُ إلى الرُّفوف، فَوَقَعَتْ عَيْنايَ على دفترِ مُذَكَّراتٍ صَغير، وَرَأَيْتُ أَنَّهُ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ أسْرِ كَلِماتي، وَأُعَبِّرَ بِالكِتابَة. فَأَخَذْتُ الدَّفْتَرَ وَاشْترَاهُ لي أَبي.

عِنْدَما وَصَلْنا إلى المَنْزِل، خَلَدَ أَبي إلى النَّوْم، أَمّا أَنا فذهبْتُ إلى غُرْفَتي وَفتحْتُ الدَّفْترَ وأمسكْتُ القلمَ لِتَخْرُجَ مِنّي كَلِماتٌ رائِعَة، أوْ رائِعَةٌ بالنِّسْبَةِ إلى مَنْ لَمْ يُكْمِلْ تَعليمَهُ وَلَمْ يستطِعْ أنْ يتعلّمَ كلَّ تَفْصيلٍ عنِ الكِتابَة، لَكِنَّني كنْتُ أَرى أَبي وَهوَ يكتُبُ تَقاريرَ عَمَلِه، فكُنْتُ أُحاولُ التَّعلُّمَ قَليلًا. يَوْمًا بَعْدَ يَوْم، بَدأْتُ أكتُبُ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ وَكنْتُ دوْمًا أَبْدَأُ كِتاباتي بِـ"عَزيزي القَلَم".

ذاتَ يَوْم، غَفَوْتُ وَأَنا أَحْمِلُ القَلَم، فَدَخَلَ أبي ليَطْمئِنَّ عليَّ وَرآني بِهذا الوَضْع، فَأَخَذَ القلمَ وَسَحَبَ الدّفترَ فَوقعَتْ عَيْناهُ عَلى خَواطِرَ كَتَبْتُها لأُمّي فَراحَ يَقْرَأُها: "عَزيزي القَلَم، لَقَدِ اشْتَقْتُ إلى أُمّي، أُمّي الَّتي لمْ أَرَها مِنْ قَبْل، لَكِنَّني أعلمُ منْ كَلامِ أبي كمْ هيَ عَظيمَة، وَأَنَّها كانَتْ أَطْيَبَ مَنْ رَأى، وَأَجْمَلَ امْرأةٍ في نَظَرِه! آه يا أمّي، لوْ تَعْلَمينَ كمْ يُحِبُّكِ أَبي! وَكَمْ أُحِبُّكِ أَنا منْ دونِ أنْ أراكِ! قدْ لا أعرفُ مَعْنى أنْ تَكونَ لي أُمّ، لَكِنَّني أشْعرُ دوْمًا بِحُبِّكِ وَكأنَّكِ مَعي، يا ليْتكِ كنْتِ مَعي، فأنْتِ دائِمًا في قَلْبي". جَلَس أَبي وَعَيْناهُ دامِعَتان، قَلَبَ الصَّفحةَ وأخذَ يَقرأ: "عَزيزي القَلَم، كَلِمَةُ أبي لا تزالُ راسِخةً في رأسي، قالَ لي أَنْ أَحْلُمَ فبدأْتُ أفكّرُ حَقًّا: "ماذا أُريد؟ ما هوَ حُلْمي؟ ما الَّذي يجعلُ أبي فَخورًا بي؟"." أَكْمَلَ أبي القراءةَ وانْتَقَلَ إلى الصَّفْحَةِ التّاليَة: "عَزيزي القَلَم، لقدْ عَرَفْتُ ماذا أُريد، لَطالَما كَرِهْتُ كَوْني حَبيسَ كَلِماتي، وَرأيْتُ راحَتي في الكِتابَة، فَلِمَ لا أَطْمَحُ وَأَعْمَلُ جاهِدًا لأُصْبِحَ كاتِبًا؟". اِكْتَفى أَبي بِذَلِكَ وَأَغْلقَ الدَّفترَ ثمَّ قَبَّلَ رأسي قائِلًا: "سَأكونُ في كُلِّ الأَحوالِ فَخورًا بِك".

في صَباحِ اليَوْمِ التّالي، بَدَأَتْ رِحْلَةُ أَحْلامي وَبَدَأَ مَعَها الجُهْدُ وَالمُثابرةُ وَالأعمالُ المُكَثّفةُ لِتَصَدّي الصِّعابِ مِنْ دونِ أنْ أَنْسى كَلِمَةَ أَبي الَّتي شَكَّلَتِ الحافِزَ الأَساسَ لِمِشْواري: "حَياتُكَ هَديَّة، هَديَّةٌ مِنْ دونِ ضَمانات، اِصْنَعْ ما أَمْكَنَكَ لِنَفْسِك، وَاتْبَعْ أَحْلامَك، طارِدْها، وَتَجاهَلْ قاتِلي الأَحْلامِ وَمُحَطِّميها، وَتَذَكَّرْ أَنَّ الحَياةَ واحِدَة، فَعِشْها الآنَ بِمَخاطِرِها، وَلا تَنْسَ أنْ تَنْهَضَ في حالةِ الفَشَل، فَالنُّهوضُ هوَ رَأْسُمالِ الِاسْتِمْراريَّة".


هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "فرح أحمد" بإشراف المعلّمة "هند عبد السّتّار" في الصّفّ الحادي عشر من "مدرسة العالم الجديد الخاصّة/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.

Previous
Previous

اِصْنَعْ مَجْدًا وَكُنْ نَجْمًا بِالتَّواضُعِ

Next
Next

جامِعُ الأَحْلامِ