اِصْنَعْ مَجْدًا وَكُنْ نَجْمًا بِالتَّواضُعِ
التَّواضُعُ خُلُقٌ كَريمٌ وَصِفَةٌ رائِعَةٌ يَتَحَلّى بِها الإِنْسان، فَهوَ يَنْشُرُ المَحبّةَ وَالوِدَّ بينَ النّاسِ ما يَعودُ عَلى المُجْتَمَعِ بِالتَّقَدُّمِ وَالرَّخاءِ وَالسَّلام. يُحْكى أنَّ مَلِكًا عادِلًا مَحْبوبًا مِنْ شَعْبِهِ أَصابَهُ مَرَضٌ خَطيرٌ وَشارَفَ عَلى المَوْت، وَكانَ لهُ وَلدانِ فَأَرادَ أنْ يَخْتَبِرَهُما ليَخْتارَ مَنْ يَصْلُحُ للوِلايَةِ بَعْدَه.
قرّرَ الملكُ أنْ يَحْكُمَ كُلٌّ مِنْ وَلَدَيْهِ قَرْيَةً لِمُدَّةِ شَهْر، وَبِحَسَبِ النَّتيجَةِ يَخْتارُ الأَنْسَبَ للخِلافَة، فانْطَلَقا إلى مَوْقِعَيْهِما مَعَ مَجْموعَةٍ مِنَ المُسْتَشارين.
وَصلَ الأَميرُ الأَوَّلُ "عامِرٌ" إِلى قَرْيَةِ التُّفّاح. هيَ قَرْيَةٌ جَميلَةٌ تَقَعُ عَلى سَفْحِ الجَبَل، عَدَدُ سُكّانِها مِئَتان، وَمَعيشَتُهُمْ تَعْتَمِدُ عَلى زِراعَةِ التُّفّاحِ وَبَيْعِه. فَرِحَ القَرَويّونَ بِهِ وَزَيَّنوا مَداخِلَ القَرْيَةِ لاسْتِقْبالِهِ فَقابَلَهُمُ الأَميرُ بِوَجْهٍ باسِم، وَنَزَلَ بِكُلِّ تَواضُعٍ عَنْ جَوادِهِ ليُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيُحَيّيَ الأَطْفال. أَعَدَّ القَرَويّونَ احْتِفالًا بِمَجيءِ الأَميرِ في وَسَطِ القَرْيَة، وَأَرادوا أنْ يَذْبَحوا الكَثيرَ مِنَ البَقَرِ تَرْحيبًا بِه، فَهَمَسَ إليْهِ أَحَدُ مُسْتَشاريهِ بِأَلّا يَقْبَلَ بِذَبْحِ هَذا الكَمِّ الهائِلِ تَجَنُّبًا للبَذَخِ مِنْ جِهَةٍ وَلِحاجَةِ النّاسِ إِلَيْها مِنْ جِهَةٍ أُخْرى، فَوافَقَ الأَميرُ بِكُلِّ تَواضُعٍ وَأَشارَ بِأَنَّ القَليلَ مِنْها يَكْفي وَأَنَّهُ سَيُشارِكُ في الذَّبْحِ وَالطَّبْخ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ فَرْحَتِهِ الَّتي تَكْمُنُ في وُجودِهِ بَيْنَهُمْ وَخِدْمَتِهِمْ وَالنُّهوضِ بِالقَرْيَةِ نَحوَ مُسْتَقْبَلٍ زاهِر. وَبَعْدَ الِاحْتِفال، جَلَسَ مَعَهُمْ وَاسْتَمَعَ إِلى حاجاتِهِمْ: طُرُقٌ مُعَبَّدَةٌ تَصِلُهُمْ بِالمَدينَة، وَمُسْتَشْفًى صَغيرٌ يُعالِجُ مَرْضاهُمْ، وَمَدْرَسَةٌ تَخْتَصِرُ طَريقَ أَبْنائِهِمِ البَعيدَةَ ليَتَعَلَّموا... فَأَخْبَرَهُمْ قَرارَهُ بِأَنْ يَسْكُنَ في وَسَطِ القَرْيَةِ ليَكونَ قَريبًا مِنْهُمْ وَأَنَّهُم في الصَّباحِ الباكِرِ سَيَتَّفِقونَ عَلى خُطَّةِ بَدْءِ العَمَل.
أَمّا الأَميرُ الثّاني "خالِدٌ" فَذَهَبَ إِلى قَرْيَةِ الرُّمّان. هيَ قَرْيَةٌ جَميلَةٌ تَقَعُ في الوادي، وَيَمُرُّ بِها نَهْرٌ جَميل. وَصَلَ الأَميرُ إلى القَرْيَةِ وَاسْتَقْبَلَهُ القَرَويّونَ فَرِحين، ثُمَّ تَقَدَّمَ طِفْلٌ صَغيرٌ يَحْمِلُ صُنْدوقًا مِنَ الرُّمّانِ هَديَّةً لَه، فَنَظَرَ الأَميرُ إِلَيْهِ بِكُلِّ غُرورٍ قائِلًا: "أَنا الأَميرُ "خالِدٌ" اِبْنُ المَلِكِ العَظيم، وَتَكونُ هَذِهِ هَديَّتي؟! مَجْموعَةٌ مِنَ الحَمْقى". خَيَّمَ الهُدوءُ في المَكان، وانْفَطَرَ قَلْبُ الطِّفْلِ الصَّغيرِ فَأَسْرَعَ إِلى أُمِّهِ باكيًا. هُنا، ذُهِلَ مُسْتَشارو الأَميرِ وَهَمَسَ أَحَدُهُمْ إِلَيْهِ بَأَنَّ هَذا التَّصَرُّفَ سَيُبْعِدُ القَرَويّينَ عَنْهُ وَيُعَمِّقُ الكَراهيَةَ لَهُ وَللمَلِكِ في نُفوسِهِم، فَصَرَخَ في وُجوهِهِمْ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُم، ثُمَّ نَظَرَ إِلى القَرْيَةِ واخْتارَ البَيْتَ الأَجْمَلَ ليَعيشَ فيه. وَمَرَّةً أُخْرى هَمَسَ مُسْتَشارُه: "هَذا البَيْتُ لِأَحَدِهِم، وَأَهْلُ القَرْيَةِ أَعَدّوا لَكَ بَيْتًا في وَسَطِ القَرْيَةِ لِتَكونَ قَريبًا مِنْهُمْ وَيُخْبِروكَ مَطالِبَهُم، وَمِنْها: إِنْشاءُ سَدٍّ ليَمْنَعَ فَيَضانَ النَّهْرِ عَنْهُمْ وَلِئَلّا تَتَدَمَّرَ أَشْجارُ الرُّمّانِ القَريبَةُ مِنَ النَّهْر". لَكِنَّ الأَميرَ رَفَضَ وَأَخْبَرَهُمْ بِرَغْبَتِهِ في أَنْ يَكونَ بَعيدًا عَنْهُم لِئَلّا يُزْعِجوهُ وَلأَنَّهُ مِنْ طَبَقَةٍ أَعْلى مِنْهُم، وَبِأَنَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعالِجوا مَشاكِلَهُمْ بِأَنْفُسِهِم، كَما أَنَّ عَلَيْهِمْ بِدايَةً بِناءَ قَصْرٍ كَبيرٍ لَه. وَفِعْلًا بَدَأَ القَرَويّونَ بِبِناءِ القَصْرِ صَبيحَةَ اليَوْمِ التّالي مِنْ أَمْوالِهِمِ الخاصَّةِ ليَكْسِبوا وِدَّ الأَمير.
وَبَعْدَ مُرورِ الشَّهْر، زارَ المَلِكُ القَرْيَتَيْن. عِنْدَ وُصولِهِ إِلى قَرْيَةِ التُّفّاحِ وَجَدَها جَميلَة، مُزْدَهِرَة، وَفيرَةَ المَحْصول، مُعَبَّدَةَ الطُّرُقِ وَتُطِلُّ عَلَيْها مَدْرَسَةٌ كَبيرَة. اِسْتَقْبَلَهُ القَرَويّونَ فَرِحين، شاكِرينَ لَهُ تَرْبيَتَهُ للأَميرِ اللَّيِّنِ الَّذي يَحْمِلُ مَكارِمَ الأَخْلاقِ وَيَتَواضَعُ للصَّغيرِ وَالكَبيرِ حَتّى أَصَبحَتِ القَرْيَةُ الأَغْنى في المَمْلَكَة. فَخَرَجَ المَلِكُ مَسْرورًا وَتَوَجَّهَ إِلى قَرْيَةِ الرُّمّان، وَهُناكَ اسْتَغْرَبَ وَحْشَةَ القَرْيَة، وَالبؤْسَ وَالحُزْنَ المُخَيِّمَيْنِ عَلى الوُجوه... فَقَدْ ذَبُلَتْ أَشْجارُ القَرْيَةِ وَقَلَّ عَدَدُ سُكّانِها وَباتَ الظَّلامُ الدّامِسُ يُخَيِّمُ عَلَيْها بَعْدَ فَيَضانِ النَّهْرِ وَغَرَقِ نِصْفِ القَرْيَةِ وهِجْرانِ مُعْظَمِ سُكّانِها... فَصَرَخَ المَلِكُ طالِبًا ابْنَهُ لَكِنَّهُ لمْ يَجِدْهُ بَيْنَ النّاسِ لأَنَّهُ يَعيشُ في قَصْرٍ خارِجَ القَرْيَة، فَطَلَبَ مِنْ جُنودِهِ أَنْ يُحْضِروهُ مُكَبَّلًا بِالسَّلاسِلِ لِلِاعْتِذارِ مِنَ القَرَويّين، كَما أَنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالتَّعْويضِ عَنْ خَسائِرِهِمْ وَمُعاقَبَةِ الأَميرِ "خالدٍ" وإِرْجاعِ القَرْيَةِ أَجْمَلَ مِنَ السّابِق.
أَخيرًا، رَجَعَ المَلِكُ إِلى قَصْرِهِ في المَدينَةِ مَعَ وَلَدَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَيْقَنَ أَنَّ الأَميرَ "عامِرًا" بِأَخْلاقِهِ وَتَواضُعِهِ وَمَحَبَّتِهِ للنّاسِ وَمَحَبَّةِ النّاسِ لَهُ هوَ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكونَ المَلِكَ بَعْدَهُ بِحَيْثُ يَطْمَئِنُّ أَنَّ مَمْلَكَتَهُ بَيْنَ أَيْدٍ أَمينَةٍ وَمُحِبَّة.
هذا النّصّ من تأليف التّلميذ "مصعب المدلّل" بإشراف المعلّمة "ماجدة الحيجي" في الصّفّ التّاسع من "مدارس الظّفرة الخاصّة/ العين/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركته في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.