ثِمارُ الغُرورِ

 
 
 
 

داعَبَ نسيمُ الرَّبيعِ أوراقَ شَجَرِ التُّفّاحِ الَّتي تشبّثَتْ بِالأغْصانِ بِقوَّة، فَتَمايلَتْ ثِمارُ التُّفّاح، وَسَقَطَ بعضُها على العُشْبِ النّاعِمِ وَتدحرجَ في تيهٍ حَتّى اسْتقرَّ بِنُعومةٍ عَلى أَطرافِ الأغصانِ اليابسةِ أرْضًا.

لَقَدِ اعْتدْتُ تأمُّلَ الفَلّاحينَ وَهُمْ يَجمعونَ التُّفّاحَ بِدقّةٍ في مَوْسِمِ الحَصاد، وَباتَ التَّخلّي عنْ هذهِ العادةِ صَعْبًا.

عندَ تأمُّلِهِمْ، حلَّقْتُ إلى شجرةِ التُّفّاحِ الصَّغيرةِ في أَعْلى التَّلّ، وَكانَتْ ثِمارُها تتوهَّجُ احْمِرارًا لِشِدَّةِ حَلاوَتِها. وَما إنْ حَطَطْتُ عَلى غُصْنِها حَتّى قالَتْ بِلَهْفَة: "يا لهُ منْ صَباحٍ جَميلٍ أيَّتُها العُصْفورَة، أَلا توافِقينَني الرّأْي؟"

فَأَجَبْتُها بِحَماسة: "بِالطَّبْع! فإنَّهُ اليَوْمُ الأوّلُ في مَوْسِمِ الحَصاد، وَما هيَ إلّا ساعاتٌ حتّى يأْتيَ القَرويّونَ ويبدأوا بِشِراءِ التُّفّاحِ منْ سوقِ الفَلّاحين".

فأجابَتْ بِفَخْر: "هاهاها! هذا أمرٌ أَكيد، أَلا تَعْلَمينَ أنَّهُمْ يأْتونَ فقطْ ليَحْصُلوا عَلى نَصيبِهِمْ مِنْ ثِماري؟ فَهيَ الأَطْيَبُ في هذا الحَقْل!"

لمْ أَرغَبْ في إيقادِ غُرورِها، فَقُلْت: "كلُّ ثِمارِ التُّفّاحِ هُنا لَذيذَة، مِنْ دونِ الِانْتِقاصِ منْ ثِمارِك".

لمْ يُعْجِبْها كَلامي فَبَدَأَتْ تَهُزُّ أَغْصانَها وَكأنَّها تَأْمُرُني بِالرَّحيلِ ثمَّ قالَت: "ماذا؟ وَهلْ هُناكَ شَجَرَةٌ يُمْكِنُها أنْ تُنْتِجَ ثِمارًا توازي نِصْفَ لَذَّةِ ثِماري؟ بِالطَّبْعِ لا! وَلَكِنَّكِ ناكِرَةٌ لِهذهِ الحَقيقَة، وَأَنا لنْ أَسمحَ لكِ بِأنْ تُهينيني بِهذهِ الطَّريقَة. وَلِهَذا، فَأَنا لنْ أُنْتِجَ ثِمارًا في المَوْسِمِ التّالي، وَسَتَرَيْنَ أنَّ أَهْلَ القَرْيَةِ لنْ يُقْبِلوا عَلى شِراءِ التُّفّاح! فَمِنْ دونِ ثِماري الشَّهيَّةِ لنْ يَكتملَ المَوْسِم!"

بَعْدَ هَذا الحِوارِ السّاخِن، قَرَّرْتُ أنْ أَرْحَلَ وَأَتْرُكَها وَحْدَها لَعَلَّ غُرورَها المُفْرِطَ يَهْدَأُ وَيَسْتَقِرّ.

حَطَطْتُ عَلى غُصْنِ الشّجرةِ الحَكيمة، وَكانَتْ شَجَرةً شامِخَةً تَحْتَوي السَّماءَ بِأَغْصانِها العاليةِ المُلْتَويَة، فَأَخْبَرْتُها عَنِ الشّجرةِ الصَّغيرَة، فَرَدَّت: "يبْدو أنَّها مُتَعَطِّشَةٌ للمَديحِ المُفْرِط، لَكِنْ عَلَيْها أنْ تَحْذَر، فَما طارَ طَيْرٌ وارْتَفَعَ إلّا وَكَما طارَ وَقَع".

في الأُفُقِ البَعيدِ وَخَلْفَ الجِبالِ الشّامِخَة، فتحَ الفَجْرُ جَفْنَه، وَخَرَقَتْ تَغْريداتُ الطُّيورِ الصَّباحيَّةُ الهُدوءَ الَّذي خيّمَ عَلى الحَقلِ في اللَّيْلِ كَسِمْفونيَّةٍ عَذْبَةٍ تَشْنُفُ الآذان. كانَ هَذا اليَوْمَ الأَوَّلَ منْ مَوْسِمِ الحَصاد، فَقَدْ مرَّتْ سنةٌ كاملةٌ على حَديثي وَالشَّجرةَ الصَّغيرَة، وَكانتِ الأشجارُ مُثْمرَةً وَالحقلُ كَحَريرٍ أَخْضَرَ مُرَصَّعٍ بِجَواهِرَ حَمْراء، فَكانَتْ كلُّ شَجَرَةٍ حامِلةً لِكنْزٍ شَهيّ، إلّا تلكَ الَّتي اسْتقرَّتْ أَعْلى التَّلّ، فَحَطَطْتُ عَلى غُصْنِها وَقالَتْ بِكلِّ ثِقَة: "ليْسَ عليْكِ أنْ تُرَحِّبي بِمَوْسِمِ الحَصادِ هذهِ السَّنَةَ أيَّتُها العُصْفورَة، فَكَما تَرَيْنَ أَنا لمْ أُثْمِرْ وَلِذَلِكَ لنْ يَكونَ هُناكَ حَصاد".

كانَتْ كلُّ دَقيقةٍ تَمْضي تُشْبِعُ غُرورَ الشَّجَرَةِ وَتؤَكِّدُ كَلامَها، وَما هيَ إلّا بِضعُ دَقائِقَ حَتّى بدأَ الفَلّاحونَ بِالمَجيء، وكانَتْ لكلٍّ منْهُمْ سلّةٌ خاصَّةٌ يَحملُ فيها ثِمارًا صَدَرَ مِنْها بَهيجٌ أَحْمَرُ تَحتَ أشِعّةِ الشَّمسِ الدّافِئَة، وَكُلَّما امْتَلأَتْ سَلَّةٌ اسْتُبْدِلَتْ بِأُخْرى فارِغَة. فَقالَتِ الشَّجرةُ بِصَوْتٍ مُرْتَجِف: "لا عليْكِ أيَّتُها العُصْفورَة، إنَّهم فقطْ يَتَفَقَّدونَ شَجَرًا فيها مِنْ ثِماري". 

وَفي اللَّحْظةِ نَفْسِها تَجمَّعَ الفَلّاحونَ حوْلَ الشَّجَرَة، وَقالَ أَحَدُهُم: "لمْ تُثْمِرْ هذهِ الشَّجرةُ في هَذا العام، بَعْدَما كانَتْ ثِمارُها مِنْ أَفْضَلِ الثِّمار، أَظُنُّ أنَّ عَلَيْنا قَطْعَها"، أَوْمَأَ الفَلّاحونَ تَعْبيرًا عَنْ موافَقَتِهِمْ ثمَّ رَحَلوا.

أَمْطَرَ الخوفُ والقلقُ عَلى الشّجرةِ الصَّغيرَة، فَتَمايَلَتْ أَغْصانُها وَكأنَّها تَحْتَضِنُ نَفْسَها خَوْفًا، وَقالَتْ بِصَوْتٍ مَليءٍ بالرَّجاء: "أَيَّتُها العُصْفورةُ هَلْ سَيَتَخَلَّصونَ مِنّي؟ لا أوَدُّ الرَّحيل…". خَيَّمَ الهُدوءُ واشْتَدَّتِ الرّياحُ حامِلةً أَنينَ الشّجرةِ الصّغيرةِ عَبْرَ الحَقْل، فانْفَطَرَتْ قُلوبُ العَصافيرِ وَالأشجارِ على حالِها، ثُمَّ بَدَأَتْ أغصانُها بالذُّبولِ منْ فَرْطِ الحُزْن. مَرَّ اليَوْمُ وَالشّجرةُ الصّغيرةُ مُنْغَمِسَةً في جَوْفِ اليَأْسِ وَالظَّلامِ الدّامِس.

غَمرَتِ الشّفقةُ نُفوسَ العَصافيرِ وَالأشجارِ عَلى حالِ الشّجرةِ الصّغيرةِ فَما كانَ بِوَسْعِنا إِلّا أنْ نُساعِدَها، فَلَجَأْتُ إلى الشَّجرةِ الحَكيمةِ طَلَبًا للنَّصيحَة، وَأَنْصَتُّ إِلى اقْتِراحِها بِإِمْعانٍ لإنْقاذِ تِلكَ المِسْكينَة.

لامَسَتْ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ الرَّقيقةُ قِمَمَ الأَشْجار، وَحَزَمَ الفَلّاحونَ عُدَّتَهُمْ لِهذا اليومِ الحاسمِ الَّذي سَتَلْقى فيهِ هذهِ الشّجرةُ مصيرَها. وَما إِنْ وَصلَ الفَلّاحونَ حَتّى دُهِشوا بالمنظرِ أمامَهم، فقدْ كانَتْ أَعْشاشُ العَصافيرِ تملأُ أغْصانَها كَما الْتوَتْ أَغصانُ الأَشجارِ المُجاورةِ حَوْلَها بِسَلام، فَشَعَرَتِ الشَّجرةُ الصَّغيرةُ بِالطُّمَأْنينَة... إِلّا أنَّ الفَلّاحينَ بَقوا مُتَرَدِّدينَ وَفي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِم. وَبعدَ بِضْعِ دَقائقَ نَطَقَ حَكيمُهم: "دَعوها وَشَأْنَها، لَيْسَتْ كُلُّ المَواسِمِ مُتَشابِهَة، قَدْ يَحْمِلُ لَها المُستقبَلُ ثِمارًا يانِعَة، فَلا تَنْسوا ثِمارَها السّابِقَةَ الَّتي راقَتْ لَكُمْ يَوْمًا ما". هُنا اهْتَزَّتْ أغصانُها فَرَحًا فانْتَفَضَتِ الطُّيورُ منْ أعْشاشِها عَلى هذهِ الرَّجْفَةِ مُغَرِّدَةً تَغْريدَةَ النَّشْوَةِ وَالسَّلام.


هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "أسما خلف الشّبلي" بإشراف المعلّمة "نورهان خلاج" في الصّفّ الحادي عشر من "مدارس الإمارات الوطنيّة-محمّد بن زايد/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.

Previous
Previous

مِفْتاحُ القُلوبِ

Next
Next

اِصْنَعْ مَجْدًا وَكُنْ نَجْمًا بِالتَّواضُعِ