مِفْتاحُ القُلوبِ
أَرَأَيْتَ يَوْمًا حاكِمًا يَمْشي وَيَجولُ بَيْنَ أَفْرادِ رَعيَّتِه؟؟ أَرَأَيْتَ يَوْمًا حاكِمًا لا يَعْرِفُ أَيَّ أَمْرٍ عَنْ أُمورِ رَعيَّتِه؟؟
لا تَسْتَغْرِبِ الأَمْر، كانَ هُناكَ إِمْبَراطورٌ يَحْكُمُ مَمالِكَ عَديدَةً وَكانَ لَدَيْهِ شابّانِ وَسيمان، الكَبيرُ اسْمُهُ "رائِدٌ" وَالصَّغيرُ اسْمُهُ "وَسيم". ذاتَ يَوْمٍ مَرِضَ المَلِكُ مَرَضًا خَطيرًا، وَشَعَرَ بِدُنوِّ أَجَلِه، فَنادى وَلَدَيْهِ وَأَخْبَرَهُما بِأَنَّهُ جَمَعَ المَمالِكَ في مَمْلَكَتَيْن، وَسَيَحْكُمُ كُلٌّ مِنْهُما مَمْلَكَتَهُ الخاصَّة. ماتَ المَلِك، وَبَعْدَ مُرورِ أَرْبَعينَ يَوْمًا تَوَلّى الشّابّانِ الحُكْم، فاسْتَلَمَ "رائِدٌ" مَمْلَكَةَ النُّبَلاءِ الغَنيَّةَ بِالمَوارِدِ الطَّبيعيَّةِ وَالبَعيدَةَ عَنِ العَلاقاتِ التِّجاريَّة، في حينِ اسْتَلَمَ "وَسيمٌ" مَمْلَكَةَ الأَحْرارِ المُزْدَهِرَةَ بِنَشاطِها التِّجاريِّ وَالِاقْتِصاديّ.
ذاتَ يَوْمٍ أَرادَ المَلِكُ "وَسيمٌ" زيارَةَ أَخيهِ فَذَهَبَ إِلَيْهِ وَدارَ هذا الحَديثُ بَيْنَهُما:
ـ "كَيْفَ حالُكَ يا "وَسيم"؟"
ـ "بِأَفْضَلِ حالٍ فَقَدْ أَتْمَمْتُ صَفْقَةً جَديدَةً مَعَ مَمْلَكَةِ البَواسِل. وَأَنْت؟ كَيْفَ حالُ رَعيَّتِك؟"
ـ "أَنا لا أُحِبُّ التَّبادُلَ أَوِ التَّعاوُنَ مَعَ أَحَدٍ وَلا أَحْتاجُ مُساعَدَةَ أَحَدٍ عَلى الإِطْلاق".
ـ "وَلَكِنْ كَيْفَ تَتَدَبَّرُ شؤونَ رَعيَّتِك؟"
ـ "رَعيَّتي؟ هاهاها.. فَلْيَتَدَبَّروا أُمورَهُمْ بِأَنْفُسِهِم. ما عَلاقَتي أَنا؟ أَنا حاكِمُ هَذِهِ المَمْلَكَةِ وَلَسْتُ مَسْؤولًا عَنْ أُمورِ هَؤلاءِ الحُثالَة…"
ـ "لَكِنَّ هَذا…"
وَقَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ المَلِكُ "وَسيمٌ" كَلامَهُ دَخَلَ أَحَدُ الحُرّاسِ قائِلًا: "مَوْلاي، يُريدُ أَحَدُ الفَلّاحينَ رؤْيَتَكَ وَالتَّحَدُّثَ مَعَك".
ـ "فَلّاحٌ يُريدُ التَّكَلُّمَ مَعي؟ هَلْ جُنَّ جُنونُه؟ كَيْفَ أَمْكَنَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّحَدُّثَ مَعَ الحاكِمِ العَظيمِ صاحِبِ الطَّبَقَةِ المَرْموقَة؟ اِذْهَبْ أَيُّها الحارِسُ واطْرُدْهُ وَإِلّا قَطَعْتُ رَأْسَه".
خَرَجَ الحارِس، فَصَرَخَ المَلِكُ "وَسيم": "ما الَّذي فَعَلْتَه؟ لِماذا لَمْ تَسْتَمِعْ إِلَيْه، قَدْ يَكونُ الأَمْرُ مُهِمًّا؟"
ـ "أَنا لا أَتَحَدَّثُ مَعَ أَمْثالِه، فَأَنا الحاكِمُ وَهوَ راعٍ بَسيطٌ قَذِر. هَلْ تَفْهَم؟"
ـ "لَكِنَّ هَذا التَّصَرُّفَ سَيُنْهي مَمْلَكَتَكَ تَمامًا..."
ـ "وَأَنْتَ قُلْت، مَمْلَكَتي. وَأَنا حُرٌّ بِها".
ـ "وَلَكِنْ…"
وَقَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ "وَسيمٌ" كَلامَه، اِنْفَجَرَ المَلِكُ "رائِدٌ" غاضِبًا: "لا أُريدُ سَماعَ أَيِّ أَمْر، اِرْحَلْ مِنْ هُنا".
ـ "حَسَنًا سَأَرْحَل، لَكِنَّكَ سَتَحْتاجُني يَوْمًا ما".
وَهَكَذا عادَ المَلِكُ "وَسيمٌ" إِلى مَمْلَكَتِهِ مَكْسورَ الخاطِر، أَمّا "رائِدٌ" فَراحَ يُكَلِّمُ نَفْسَه: "أَخي يَتَصَرَّفُ كَأَنَّهُ رَجُلٌ صَغيرٌ كَعامَّةِ الشَّعْبِ لا كَمَلِك…".
بَعْدَ مُرورِ أَشْهُرٍ عَلى انْفِصالِ المَلِكِ "رائِدٍ" عَنِ العالَمِ الخارِجيِّ للقَصْرِ انْفِصالًا تامًّا، زادَتْ أُمورُ رَعيَّتِهِ سوءًا، وَباتَتْ مُهَدَّدَةً بِالِانْهيار.
ذاتَ يَوْم، اِسْتَيْقَظَ "رائِدٌ" عَلى ضَجيجٍ صادِرٍ مِنَ الخارِج، فَفَتَحَ نافِذَتَهُ وَرأى حَشْدًا كَبيرًا مِنَ النّاسِ أَمامَ القَصْرِ حامِلينَ لافِتاتٍ كُتِبَتْ عَلَيْها عِباراتٌ هَزَّتْ قَلْبَهُ وَجَعَلَتْهُ يَرْتَعِشُ خَوْفًا، فَقَدْ كانوا يَصْرُخونُ احْتِجاجًا عَلى الحالَةِ المُزْريَةِ الَّتي وَصَلوا إِلَيْها، وَيُطالِبونَ بِحَياةٍ أَفْضَل.. ثُمَّ لَفَتَتِ انْتِباهَ المَلِكِ لافِتَةٌ كُتِبَ عَلَيْها: "لِمَ لا نَكونُ كَمَمْلَكَةِ الأَحْرار؟"
في تِلْكَ اللَّيْلَة، تَسَلَّلَ المَلِكُ "رائِدٌ" إِلى مَمْلَكَةِ أَخيهِ ليَرى أُمورَ النّاسِ هُناك، فَرأى أَخاه يَتَحَدَّثُ مَعَ رَجُلٍ مُسِنٍّ وَيَضْحَكُ مَعَه، فَشَعَرَ بِالِاشْمِئْزازِ وَقَفَزَ مِنْ مَكانِهِ عائِدًا إلى مَمْلَكَتِهِ مِنْ دونِ أَنْ يَنْبِسَ بِبِنْتِ شَفَة، غَيْرَ مُبالٍ بِأُمورِ النّاسِ وَأَحْوالِهِم. اِزْدادَتِ الأُمورُ سوءًا، واسْتَمَرَّ الشَّعْبُ بِالتَّظاهُرِ بِلا كَلَلٍ أَوْ مَلَل، حَتّى طَفَحَ الكَيْلُ مَعَ المَلِكِ وَقَرَّرَ اسْتِعْمالَ القوَّةِ إِلّا أَنَّهُ لَمْ يَفْلَح. فَجَمَدَ المَلِكُ في مَكانِهِ لا يَعْرِفُ ماذا يَفْعَل، فَكُلُّ مُحاوَلاتِهِ باءَتْ بِالفَشَل، وَأَخَذَ يَسْتَرْجِعُ الصّوَرَ في عَقْلِهِ حَتّى قَرَّر، عَلى مَضَض، أَنْ يَطْلُبَ مُساعَدَةَ أَخيهِ الصَّغيرِ فَأَرْسَلَ بِطَلَبِه، وَبَعْدَ بِضْعِ ساعاتٍ لَبّى "وَسيمٌ" النِّداء. اِسْتَقْبَلَهُ "رائِدٌ" قائِلًا: "أَعْتَذِرُ عَنْ كَوْني فَظًّا مَعَكَ يا أَخي الغالي".
ـ "لا عَلَيْكَ يا أخي. فَلْنَنْسَ الماضيَ وَنَحُلَّ المُشْكِلَة".
ـ "وَلَكِنْ كَيْف؟"
ـ "الحَلُّ الوَحيدُ هوَ التَّواضُعُ وَالتَّواصُلُ بِمَحَبَّةٍ مَعَ أَفْرادِ رَعيَّتِك".
ـ "هَذا لَيْسَ الوَقْتَ المُناسِب".
ـ "بِالعَكْس، فَالتَّواضُعُ مِفْتاحُ القُلوب، وَهوَ أَهَمُّ ثِمارِ الحَياةِ وَمِنْ دونِهِ تَسْقُطُ البِلاد".
عِنْدَها، تَأَهَّبَ المَلِكُ "رائِدٌ" وَخَرَجَ بِقَلْبٍ شُجاعٍ وِوَقَفَ أَمامَ الحَشْدِ الغاضِبِ فَعَمَّ الصَّمْت. ثُمَّ قال: "يا شَعْبيَ العَظيم، أَعْتَذِرُ عَنْ جَهْلي وَعَدَمِ تَواصُلي مَعَكُمْ طَوالَ هَذِهِ المُدَّة، لَكِنَّني أَعِدُكُمْ أَنْ أَجْعَلَ هَذِهِ المَمْلَكَةَ تَزْدَهِر، وَتَكونَ عَلاقَتُنا مَبْنيَّةً عَلى التَّواضُعِ وَالتَّفاهُم".
هَتَفَ الحَشْدُ فَرِحًا وَبَدَأَ العَمَلُ الجادّ. وَبَعْدَ سَنَواتٍ قَليلَة، اِسْتَعادَتْ مَمْلَكَةُ النُّبَلاءِ ازْدِهارَها وَباتَ المَلِكُ صَديقًا لأَبْناءِ رَعيَّتِه. ثُمَّ وَحَّدَ الأَخَوانِ المَمْلَكَتَيْنِ مُحَقِّقَيْنِ قوَّةً عُظْمى بَيْنَ المَمالِكِ بِتَواضُعِهِما وَمَحَبَّتِهِما للآخَرين.
هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "إليسار فوال" بإشراف المعلّمة "لين زينة" في الصّفّ الثّامن من "مدرسة المستقبل الدّوليّة/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.