وَقْفَةٌ مَعَ الذّاتِ
"لماذا بِتُّ أُناقِضُ نَفْسي وَأَفْكاري؟ لِمَ بَدَأْتُ أَتَصَرَّفُ عَكْسَ مُعْتَقَداتي؟" كُلُّ هَذا بَدَأَ مِنْ أُسْبوع.
اِسْتَيْقَظْتُ ذَلِكَ اليَوْمَ للذَّهابِ إِلى المَدْرَسَةِ كَالعادَة، وَفي أَثْناءِ خُروجي مِنَ المَنْزِلِ لَمَحْتُ نَفْسي في المِرْآةِ لَكِنَّني لَمْ أَلْحَظْ أَيَّ أَمْر. لَطالَما نَظَرْتُ إِلى نَفْسي في المِرْآة، لَكِنَّها لَمْ تَكُنْ تَعْني ليَ الكَثير، فَقَدْ كانَتْ مُجَرَّدَ انْعِكاسٍ لِصورَتي. لَمْ أَكُنْ أَهْتَمُّ بِمَظْهَري الخارِجيِّ بِقَدْرِ ما كُنْتُ أُحافِظُ عَلى جَمالي الدّاخِليّ. خَرَجْتُ مِنَ المَنْزِلِ عَلى عَجَلَةٍ مِنْ أَمْري لِئَلّا أَتَأَخَّرَ عَلى دُروسي إِذْ أَوْشَكَتِ الحِصَّةُ الأولى أَنْ تَبْدَأ. بِسَبَبِ الِازْدِحامِ وَصَلْتُ مُتَأَخِّرَة، وَعِنْدَ دُخولي إِلى الصَّفِّ رَأَيْتُ المُشْرِفَةَ مَعَ فَتاةٍ لَمْ تَسْبِقْ لي رؤْيَتُها في المَدْرَسَة، حينَها عَلِمْتُ أَنَّها الطّالِبَةُ الجَديدَةُ إِذْ أُضيفَ في اليَوْمِ السّابِقِ اسْمُ فَتاةٍ عَلى لائِحَةِ الصَّفّ، ثُمَّ قالَتِ المُشْرِفَة: "هَذِهِ زَميلَتُكُنَّ الجَديدَةُ "سُمَيَّة"، رَحِّبْنَ بِها".
بَعْدَ ساعَةٍ مِنْ دَرْسِ الأَحْياء، ساعَةٌ بَدَتْ كَأَنَّها لَنْ تَنْتَهيَ أَبَدًا، رَنَّ الجَرَسُ مُعْلِنًا بَدْءَ الفُسْحَة. خَرَجْتُ وَزَميلاتي مُسْرِعاتٍ خَشْيَةَ أَنْ تَجْلِسَ إِحْداهُنَّ مَكانَنا، هوَ مَكانٌ خَصَّصْناهُ لَنا وَحَفَرْنا حُروفَنا الأولى عَلَيْهِ كَذِكْرى. حالَما جَلَسْنا تَذَكَّرْتُ أَنَّنا نَسينا اصْطِحابَ الطّالِبَةِ الجَديدَةِ "سُمَيَّة"، فَذَهَبْتُ لِمُناداتِها كَيْ تَجْلِسَ مَعَنا وَلا تَبْقى وَحيدَة. عِنْدَما تَحَدَّثْتُ مَعَها شَعَرْتُ أَنَّها طَيِّبَةُ القَلْبِ مَعَ أَنَّني لا أُحَلِّلُ الشَّخْصيّاتِ لِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلى صاحِبِها، ثُمَّ أَتَتْ وَجَلَسَتْ مَعَنا فَرُحْنا نُعَرِّفُها إِلى تَفاصيلِ المَدْرَسَةِ مِنَ المَقْصِف، وَالصّالَةِ الرّياضيَّةِ إِلى نُقْطَةِ التَّجَمُّعِ الصَّباحيَّة.
اِنْتَهَتِ الفُسْحَةُ فَعُدْنا إِلى الصَّفّ، وَكُنْتُ أُدَقِّقُ في "سُمَيَّةَ" في المَرّاتِ المَعْدودَةِ الَّتي تَحَدَّثَتْ فيها وَلا أَعْلَمُ السَّبَب، لَكِنَّني لاحَظْتُ أَنَّها تَتَحَلّى بِسُرْعَةِ بَديهَةٍ لا مَثيلَ لَها. في دَرْسِ الرّياضيّاتِ كانَتْ تَحُلُّ المُعادَلاتِ في ثَوانٍ بَعْدَ أَنْ كُنْتُ الأولى في حَلِّها، كَما أُعَدُّ الأولى عَلى الفَصْل. في تِلْكَ اللَّحْظَةِ أَحْسَسْتُ بِشُعورٍ غَريبٍ أَعْجَزُ عَنْ وَصْفِه، وَفي كُلِّ يَوْمٍ كانَ يَزْدادُ إِلى أَنْ قُلِبَتْ مَشاعِرُ المَحَبَّةِ تُجاهَ "سُمَيَّةَ" إِلى كَراهيَةٍ وَحِقْد. حاوَلْتُ إِقْناعَ نَفْسي أَنَّهُ شُعورٌ عابِرٌ لَكِنَّهُ بَقيَ يَزيد، وَبَدَأَ تَعامُلي مَعَ مَنْ حَوْلي يَخْتَلِفُ فابْتَعَدَتْ صَديقاتي عَنّي، لَكِنَّني لَمْ أَلْحَظْ هَذا الِاخْتِلافَ إِذْ أَعْمى الحِقْدُ بَصيرَتي.
في يَوْمٍ عُدْتُ إِلى المَنْزِل، وَذَهَبْتُ إِلى غُرْفَتي وَأَقْفَلْتُ الباب. ثُمَّ نَظَرْتُ إِلى نَفْسي في المِرْآةِ وَلَمْ أَرَ صورَتي السّابِقَةَ بَلْ لاحَظْتُ الكَثيرَ مِنَ العُيوبِ الَّتي لَمْ أَرَها مِنْ قَبْل، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضَعَ حَدًّا لِما يَحْدُث. كُنْتُ عَلى يَقينٍ أَنَّني أَغارُ مِنْ "سُمَيَّةَ" فَقَدْ تَزَعْزَعَتْ ثِقَتي بِنَفْسي لِمُجَرَّدِ التَّفْكيرِ أَنَّ هُناكَ مَنْ هوَ أَذْكى مِنّي وَأَفْضَل، لَكِنَّني لَمْ أَشَأْ الِاعْتِرافَ بِذَلِك، وَحاولْتُ إِقْناعَ نَفْسي أَنَّ هَذا كُلَّهُ بِسَبَبِ الضَّغْطِ واقْتِرابِ مَوْعِدِ الِاخْتِباراتِ وَأَنَّ كُلَّ الأُمورِ سَتَكونُ عَلى ما يُرام.
بِالرُّغْمِ مِنْ ذَلِك، لَمْ أَبْذُلْ جُهْدًا كَيْ أَعودَ إِلى المُقَدِّمَة، وَسُرْعانَ ما انْخَفَضَ مُسْتَوايَ الدِّراسيّ. وَكُنْتُ كُلَّما أَخَذْتُ دَرَجاتِ الِامْتِحانِ وَوَجَدْتُ دَرَجَتَها أَعْلى مِنْ دَرَجَتي، أَكْرَهُها أَكْثَر. لِذا قَرَّرْتُ أَنْ أُعيدَ ثِقَتي بِنَفْسي إِلى ما كانَتْ عَلَيْه، فَعُدْتُ إِلى المَنْزِلِ وَفَتَحْتُ خِزانَتي وانْتَقَيْتُ مِنْها أَرْوَعَ المَلابِسِ وَأَخْرَجْتُ حَقيبَةً أَهْداني إِيّاها أَبي في عيدِ ميلادي، لَكِنَّني لَمْ أَحْمِلْها وَلا مَرَّةً خَشْيَةَ أَنْ تُخْدَشَ فَقَدْ كانَتْ باهِظَةَ الثَّمَن، ثُمَّ قُلْتُ في نَفْسي: "غَدًا سَأُبْهِرُ الجَميع".
اِسْتَيْقَظْتُ في اليَوْمِ التّالي وَالحَماسَةُ لإِبْهارِ الجَميعِ تَمْلَأُني، ثُمَّ ارْتَدَيْتُ مَلابِسي وَكِدْتُ أُبْهِرُ نَفْسي فَقَدْ كُنْتُ كَأَميرَةٍ خَرَجَتْ مِنْ كِتابٍ خَياليّ. اِسْتَعْدَدْتُ وَرَكِبْتُ السَّيّارَةَ ليوْصِلَني أَبي إِلى المَدْرَسَة، وَما إِنْ وَصَلْتُ حَتّى بَدَأَتْ نَبَضاتُ قَلْبي تَتَسارَع، فَنَزَلْتُ مِنَ السَّيّارَةِ وَرُحْتُ أَمْشي فَخورَةً في نَفْسي أَكادُ لا أَرى أَحَدًا أَمامي لِشِدَّةِ غُروري. وَبَيْنَما كُنْتُ أَسْتَمْتِعُ بِنَظَراتِ صَديقاتي وَطالِباتِ المَدْرَسَةِ المَليئَةِ بِالإِعْجابِ وَالِانْبِهار، وَقَعْتُ وَرُحْتُ أَصْرُخُ مِنَ الأَلَم. وَيا للصَّدْمَة! فَالوَحيدَةُ الَّتي سارَعَتْ لِمُساعَدَتي مِنْ دونِ أَنْ تَضْحَكَ أَوْ تَسْخَرَ مِنّي كانَتْ "سُمَيَّة"، فَقَدْ أَخَذَتْني إِلى المُمَرِّضَةِ وَانْتَظَرَتْ مَعي إِلى أَنْ وَصَلَ والِدي.
عِنْدَما وَصَلْتُ إِلى البَيْت، رُحْتُ أُفَكِّرُ وَأُعاتِبُ نَفْسي عَلى تَصَرُّفاتي السَّيِّئَةِ مَعَ "سُمَيَّة"، وَعَلِمْتُ أَنَّ الغُرورَ الَّذي نَكْتَسِبُهُ في الحَياةِ بِسَبَبِ النَّقْصِ في الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ لَيْسَ حَلًّا، فَالإِنْسانُ المُتَصالِحُ مَعَ ذاتِهِ يَعْلَمُ مَنْ يَكونُ وَلا يَحْتاجُ أَنْ يُثْبِتَ نَفْسَهُ لِغَيْرِه.
هَذِهِ الحادِثَةُ سَبَبُ تَساؤُلاتي عَنْ تَصَرُّفاتي المُتَناقِضَةِ مَعَ أَفْكاري. لَقَدْ كانَ لِهَذا اليَوْمِ أَثَرٌ كَبيرٌ في حَياتي إِذْ عاهَدْتُ نَفْسي أَلّا أَتَصَرَّفَ بِغُرورٍ مَعَ أَيٍّ كان.
هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "بسمله الشّاهر" بإشراف المعلّمة "رائدة محمّد" في الصّفّ الثّامن من "مدارس الظّفرة الخاصّة/ العين/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2018-2019.