"وادي النَّمْلِ"

 
 
 
 

تَحْتَ شُجَيْرَةٍ مِنْ شُجَيْراتِ الصَّحْراءِ تَعيشُ "أَمَل"، الخُنْفساءُ السَّمْراءُ النَّحيفَة، مَعَ مَجْموعَةٍ صَغيرَةٍ مِنَ الخّنافِسِ الَّتي تُقاوم، كَغَيْرِها مِنْ قاطِني الصَّحْراء، الظُّروفَ القاسيَةَ لِكَسْبِ قوْتِها اليَوْمي. تُثابِرُ عائِلَةُ "أَمَلَ" لَيْلًا نَهارًا لِتَأْمينِ مَأْكَلِها وَمَشْرَبِها وَبِالكادِ يَكْفيها وَصِغارَها. بَدَأَتْ تَكْبُرُ "أَمَلُ" وَتَخْرُجُ تَدْريجيًّا مَعَ والِدِها للبَحْثِ عَنِ الطَّعامِ وَالمُساعَدَةِ في تَوْفيرِ ما تَقْتاتُ بِهِ العائِلَةُ الَّتي بَدَأَتْ تَكْبُرُ وَتَزْدادُ مُتَطَلِّباتُها اليَوْميَّة.

كانَتْ "أَمَلُ" خُنْفساءَ مُجْتَهِدَةً وَمُثابِرَة، يُمَيِّزُها عَقْلُها المُتَوَقِّدُ بِالحِكْمَةِ وَبُعْدُ نَظَرِها عَنْ غَيْرِها، فَهيَ تَكْرَهُ الرّوتينَ وَتَبْحَثُ دائِمًا عَنْ كُلِّ جَديدٍ يُساهِمُ في تَوْفيرِ رِزْقِهِمْ وَتَحْسينِ حَياتِهم.

ذاتَ يَوْم، بَعْدَ قَضاءِ يَوْمٍ شاقٍّ مَعَ والِدِها، قالَتْ بِصَوْتٍ واثِق: "والِدي، ما الَّذي يُجْبِرُنا عَلى العَيْشِ في هَذِهِ الصَّحْراءِ القاسيَةِ رُغْمَ قِلَّةِ مَوارِدِها؟ أَلا يُمْكِنُنا البَحْثُ عَنْ مَكانٍ أَفْضَلَ للعَيْش؟"

هَزَّ الوالِدُ رَأْسَهُ وَتَنَهَّدَ تَنْهيدَةً طَويلَةً قائِلًا: "يا "أَمَل"، سَكَنَ أَجْدادُكِ يَوْمًا في مِنْطَقَةٍ مَليئَةٍ بِالخَيْرات، تُدْعى "واديَ النَّمْل"، وَكانَ يُخْبِرُني جَدّي إِنَّ العَيْشَ فيها أُمْنيَةُ كُلِّ الكائِناتِ إِلّا أَنَّ الكائِنَ الوَحيدَ الَّذي اسْتَطاعَ العَيْشَ فيها هوَ النَّمْل".

هُنا، زادَ شَوْقُ "أَمَلَ" واعْتَراها الفُضولُ لِمَعْرِفَةِ المَزيدِ عَنْ "وادي النَّمْلِ" وَالتَّوَغُّلِ في أَسْرارِه، فَسَأَلَتْ والِدَها بِحَماسَة: "لِمَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَجْدادُنا الصُّمودَ في هَذا الوادي وَالتَّنَعُّمَ بِخَيْراتِهِ وَمَوارِدِهِ الكَثيرَة؟"

صَمَتَ والِدُ "أَمَلَ" قَليلًا ثُمَّ قال: "كُلُّ عامٍ في مَوْسِمِ الشِّتاء، يَمْتَلئُ الوادي بِالمياهِ الجارِفَةِ الَّتي تُدَمِّرُ مَساكِنَ كُلِّ مَنْ يَسْكُنُه وَتَجْرِفُها بَعيدًا فَيَموتُ العَديدُ مِنْهُم، إِلّا أَنَّ النَّمْلَ يَتْبَعُ أَساليبَ وَتِقَنيّاتٍ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنّا تَعَلُّمَها وَلا مَعْرِفَتَها، وَلِذَلِكَ فَضَّلَ أَجْدادُكِ السَّكَنَ بَعيدًا وَتَحَمُّلَ قَساوَةِ هَذِهِ الصَّحْراء".

اِعْتَرى "أَمَلَ" شُعورٌ غَريبٌ وَأَحَسَّتْ بِرَغْبَةٍ جامِحَةٍ في مَعْرِفَةِ سِرِّ نَجاحِ النَّمْلِ في الصُّمودِ أَمامَ تَحَدّياتِ الوادي. فَباتَتْ لَيْلَتُها تُفَكِّرُ في السَّبيلِ لِمَعْرِفَةِ ما يَفْعَلُهُ النَّمْل، عَلَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ عائِلَتَهَا وَأَصْدِقائَها فَتَكونُ بَذْرَةَ الأَمَلِ لِعَوْدَةِ الخَنافِسِ إِلى الوادي المَليءِ بِالخَيْرات. لِذا، اِتَّخَذَتْ قَرارًا سَتُخْبِرُ أَباها عَنْهُ في الصَّباحِ الباكِر.

اِسْتَيْقَظَتْ "أَمَلُ" باكِرًا وَوَجَدَتْ والِدَها يَسْتَعِدُّ للخُروجِ كَعادَتِهِ بَحْثًا عَنِ الطَّعام، فَأَوْقَفَتْهُ بِشَغَفٍ قائِلَة: "أَبي، أُريدُكَ أَنْ تَأْذَنَ لي بِالذَّهابِ لِزيارَةِ "وادي النَّمْلِ" وَالتَّعَرُّفِ إِلَيْهِ وَمُقابَلَةِ مَجْموعاتِ النَّمْلِ الَّتي تَعيشُ فيه. لَدَيَّ رَغْبَةٌ شَديدَةٌ في التَّعَرُّفِ إِلى سِرِّ نَجاحِها".

لَمْ يُصَدِّقِ الوالِدُ ما سَمِعَه، وَرَدَّ قائِلًا: "يا "أَمَل"، أَنْتِ لا تَعْلَمينَ حَجْمَ المَخاطِرِ الَّتي سَتواجِهُكِ في الطَّريقِ إِلى "وادي النَّمْل"، إِنَّهُ بَعيدٌ جِدًّا وَالوُصولُ إِلَيْهِ شاقٌّ وَمُتْعِب".

أَلَحَّتْ "أَمَلُ" عَلى والِدِها وَأَصَرَّتْ أَنَّ الفَشَلَ لا يَعْني الِاسْتِسْلام، وَجادَلَتْهُ كَثيرًا في أَنَّ عَدَمَ تَمَكُّنِ أَجْدادِها مِنَ الصُّمودِ في الوادي لا يَعْني أَلّا تُحاوِلَ كُلُّ الخَنافِسِ مِرارًا وَتَكْرارًا، وَتَسْتَفيدَ مِنْ تَجارِبِ غَيْرِها لِتَصْمُدَ في وَجْهِ تَيّاراتِ الحَياة. وَعَدَتْ "أَمَلُ" والِدَها أَنْ تَكونَ شَديدَةَ الحِرْصِ وَالتَّنَبُّهِ لِكُلِّ خَطَرٍ وَأَلّا تُخَيِّبَ ظَنَّه، فَوافَقَ الأَبُ وَكُلُّهُ حُزْنٌ وَخَوْفٌ عَلى ابْنَتِه، لَكِنَّهُ كانَ مُقْتَنِعًا بِقُدْرَتِها عَلى تَحْقيقِ هَدَفِها، فَهيَ الأَكْثَرُ ذَكاءً وَحِكْمَة، وَلَطالَما ثابَرَتْ وَسَعَتْ بِإِصْرارٍ لِتَحْسينِ حَياةِ عائِلَتِها.

اِنْطَلَقَتْ "أَمَلُ" في رِحْلَتِها القاسيَةِ بَحْثًا عَنْ بَصيصِ أَمَلٍ لِتَحْسينِ حَياةِ عائِلَتِها. قَطَعَتْ أَمْيالًا كابَدَتْ فيها وَعانَتْ، لَكِنَّها تَسَلَّحَتْ بِإِرادَتِها الصَّلْبَةِ وَإيمانِها أَنَّ الخُمولَ لَنْ يوْصِلَها وَقَوْمَها إِلّا إِلى المَزيدِ مِنَ المُعاناةِ في طَلَبِ القَليلِ مِنَ الرِّزْقِ في وَسَطِ تِلْكَ الصَّحْراءِ القاسيَة.

لَمْ تُصَدِّقْ "أَمَلُ" عَيْنَيْها حينَ لَمَحَتْ "واديَ النَّمْلِ" أَمامَها مِنْ أَعْلى قِمَّةِ الجَبَلِ الشّامِخ. وادٍ مَهيبٌ مَليءٌ بِالخَيْرات... فَقالَتْ في قَرارَةِ نَفْسِها: "فِعْلًا، لا يَسْتَحِقُّ العَيْشَ هُنا إِلّا المُثابِرُ صاحِبُ الإِرادَةِ الصَّلْبَة".

نَزَلَتْ "أَمَلُ" مُسْرِعَةً نَحوَ الوادي، وَبَدَأَتْ تَبْحَثُ عَنْ مَجْموعاتِ النَّمْلِ الَّتي تَعيشُ فيه، فَقادَها القَدَرُ إِلى مُلاقاةِ أَحَدِ كِبارِ قَرْيَةِ النَّمْلِ فَرَحَّبَ بِها عِنْدَما عَرَّفَتْ عَنْ نَفْسِها وَسَبَبِ زيارَتِها. إِنَّهُ العَمُّ "سالِمٌ" الَّذي عاصَرَ أَجْيالًا وَمَرَّ بِتَجارِبَ وَتَحَدّياتٍ جَعَلَتْ مِنْهُ صَيْدًا ثَمينًا لِـ"أَمَلَ" بِحَصيلَتِهِ الثَّريَّةِ وَتَجارِبِهِ المُتَنَوِّعَة.

اِصْطَحَبَ العَمُّ "سالِمٌ" ضَيْفَتَهُ "أَمَلَ" في جَوْلَةٍ داخِلَ الوادي شارِحًا طَريقَةَ بِناءِ المَساكِنِ في الوادي، فَهيَ مَبْنيَّةٌ تَحْتَ صُخورٍ مَتينَةٍ في اتِّجاهٍ مُعاكِسٍ لِتَيّاراتِ الماء، ثُمَّ اسْتَدْعى مَجْموعَةً مِنَ النَّمْلِ لِتُريَ "أَمَلَ" كَيْفَ يَتَماسَكُ النَّمْلُ مُكَوِّنًا كُراتٍ مِنَ النَّمْلِ تواجِهُ أَقْسى التَّيّاراتِ مِنْ دونِ إِصابَتِها بِأَيِّ ضَرَر، فَالتَّعاوُنُ سِمَةُ النَّجاحِ وَالتَّماسُكُ أَساسُ النَّجاة.

أَقامَتْ "أَمَلُ" في الوادي أَيّامًا عَديدَةً اكْتَسَبَتْ خِلالَها مَهاراتٍ عَظيمَةً وَأَفْكارًا نَيِّرَةً لَما عَرَفَتْها لَوْلا طُموحُها وَسَعْيُها المُسْتَمِرُّ وَإِصْرارُها عَلى تَحْقيقِ نَجاحٍ باهِرٍ يُنْقِذُ عائِلَتَها وَقَوْمَها مِنَ المُعاناة.

عادَتْ "أَمَلُ" وَفي جُعْبَتِها الكَثيرُ مِنَ العِلْمِ وَأَسْرارِ النَّجاح... الأَمْرُ الَّذي سَيُنْهي مُعاناةَ الخَنافِسِ وَيُمَكِّنُها مِنَ العَيْشِ بِرَخاء. وَبَعْدَ الِاسْتِقْبالِ الحارّ، بَدَأَتْ تَنْقُلُ المَعْرِفَةَ وَما تَعَلَّمَتْهُ مِنْ تَجارِبَ في هَذِهِ الرِّحْلَة. فاسْتَطاعَتْ بِأُسْلوبِها السَّلِسِ وَبَراهينِها وَمَعْرِفَتِها النَّيِّرَةِ إِقْناعَ أَهْلِها وَالأَصْدِقاءِ بِالِانْتِقالِ إِلى "وادي النَّمْلِ"، وَكُلُّها ثِقَةٌ أَنَّ ما زَرَعَتْهُ فيها مِنْ إِصْرارٍ عَلى النَّجاحِ سَيُمَكِّنُها مِنْ تَخَطّي أَصْعَبِ الظُّروفِ وَيوَفِّرُ لَها الخَيْراتِ الكَثيرَة.

سَكَنَتِ الخَنافِسُ في "وادي النَّمْلِ" سَعيدَة، وَجاءَتْ لَحْظَةُ التَّحَدّي في يَوْمٍ ماطِرٍ حَيْثُ امْتَلَأَ الوادي بِالمياهِ الجارِفَة، لَكِنَّ الخَنافِسَ تَمَكَّنَتْ مِنَ النَّجاةِ بَعْدَ أَنْ تَماسَكَتْ مُكَوِّنَةً كُرَةً مِنْ أَجْسامِها فَصَمَدَتْ مَساكِنُهُمُ المَبْنيَّةُ بِالمَعْرِفَةِ قَبْلَ الحِجارَة. وَهَكَذا، اِسْتَمَرَّتْ حَياةُ الخَنافِسِ في أَرْضٍ مَليئَةٍ بِالخَيْرات.

هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "ندى نوفل" بإشراف المعلّمة "نسرين الأيتم" في الصّفّ التّاسع من "مدرسة العالم الجديد الخاصّة/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2019-2020.

Previous
Previous

زَمْجَرَةُ الأُسودِ

Next
Next

وَقْفَةٌ مَعَ الذّاتِ