العاقِلُ مَنْ عَقَّلَ لِسانَهُ

 
 
 
 

في إِحْدى اللَّيالي، كُنْتُ أُقَدِّمُ بَعْضَ المَشْروباتِ للزَّبائِنِ وَكانَ المَطْعَمُ مَليئًا وَكَأَنَّهُ يَوْمُ الِافْتِتاح.

بَعْدَ قَليل، لَمَحْتُ في طَرَفِ عَيْني صَبيًّا صَغيرًا لا يَتَجاوَزُ التّاسِعَةَ مِنْ عُمْرِه، فَقُلْتُ في نَفْسي: "يا لَحَظّي السَّيِّئ! لا أُريدُ زَبائِنَ إِضافيّين، أَلا يَكْفي أَنَّ البَرْدَ قارِسٌ وَأَرْغَبُ في العَوْدَةِ إِلى بَيْتي قَبْلَ الثّانيَةِ وَالنِّصْف؟" جَلَسَ الفَتى الصَّغيرُ إِلى الطّاوِلَة، وَلِسوءِ حَظّي كانَ الزَّبائِنُ الآخَرونَ يَنْتَظِرونَ بِغَضَب، وَهَذا ذو التِّسْعِ سَنَواتٍ يُعَطِّلُني أَنا وَالزَّبائن.

هُنا، بَدَأَ الكَلامُ وَالصَّمْتُ يَتَنافَسانِ مَعَ بَعْضِهِما داخِلي، فَبِتُّ أَعيشُ صِراعًا لا يَنْتَهي.

ـ الكَلام: "هَلْ سَتُعَطِّلينَ كُلَّ هَؤلاءِ الزَّبائِنِ لِأَجْلِ فَتًى واحِد؟"

ـ الصَّمْت: "أَجُنِنْتَ أَيُّها الكَلام؟ ماذا حَدَثَ لَك؟ وَأَنْتِ، هَلْ سَتَطْلُبينَ إِلى الفَتى أَنْ يَرْحَل؟ مِنَ الواضِحِ أَنَّهُ يُريدُ بَعْضَ المَشْروبات، أَسَتَرْفُضينَ طَلَبَه؟"

ـ الكَلام: "هَيّا! اِذْهَبي وَقولي لَهُ إِنَّ آلافَ الزَّبائِنِ يَنْتَظِرونَكِ وَبِإِمْكانِهِ الذَّهابَ إِلى أَيِّ مَطْعَمٍ آخَر".

وَقَفَ الصَّمْتُ وَقالَ بِهُدوءٍ شَديد: "مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ قَلَّ احْتِرامُه".

عِنْدَها، وَقَفْتُ مُتَجَمِّدَةً في مَكاني، فَقَدْ أَثَّرَ كَلامُ الصَّمْتِ فيَّ بِشِدَّة، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ نَحْوَ الفَتى بِبُطْءٍ وَسَأَلْتُه: "ما طَلَبُكَ أَيُّها الفَتى الصَّغير؟"

في البِدايَة، سَأَلَني عَنْ سِعْرِ الـ"مِلْك شِيْك" بِنَكْهَةِ الشّوكولاتَة، فَأَجَبْتُهُ إِنَّهُ بِخَمْسينَ سِنتًا. بَعْدَها، سَأَلَ عَنْ سِعْرِ الـ"مِلْك شِيْك" بِنَكْهَةِ الفَراوِلَة، فَقُلْت، وَعَيْنايَ تُغْمِضانِ بِبُطْءٍ مِنَ التَّعَبِ وَالإِرْهاقِ الشَّديدَيْن، إِنَّهُ بِأَرْبَعينَ سِنتًا.

في هَذِهِ اللَّحْظَة، بَدَأَ المَطْعَمُ يَمْتَلئُ بِشَكْلٍ رَهيب، وَأَنا في ضَغْطٍ شَديد؛ فَقالَ الصَّبيُّ أَخيرًا: "أُريدُ الـ"مِلْك شِيْك" بِنَكْهَةِ الفَراوِلَةِ لَوْ سَمَحْتِ". قَدَّمْتُ لَهُ طَلَبَهُ وانْتَظَرْتُ حَتّى أَنْهى مَشْروبَه، فَرَكَضْتُ مُسْرِعَةً نَحْوَ الطّاوِلَةِ لأُنَظِّفَها قَبْلَ أَنْ يأتيَ زَبونٌ آخَر، وَقُلْتُ في نَفْسي: "لَيْتَني لَمْ أُعَطِّلِ الكَثيرَ مِنَ الزَّبائِن، فَهَذِهِ الطّاوِلَةُ كانَتْ تَسَعُ سِتَّةَ أَفْراد".

أَخيرًا، نَسيتُ المَوْضوعَ وَرَحَّبْتُ بِالزَّبائِنِ الجُدُد، ثُمَّ تَذَكَّرْتُ أَنَّني لَمْ أُنَظِّفْ طاوِلَةَ الصَّبيِّ فاتَّجَهْتُ نَحْوَها، وَإِذا بِزَبونٍ يُناديني وَهوَ يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عال: "أَيُمْكِنُكِ أَنْ تأْتي إِلى هُنا يا سيِّدَة؟"، فَضَبَطْتُ أَعْصابي وَقُلْتُ في سِرّي: "أَلَنْ أَحْصُلَ عَلى بَعْضِ الاِحْتِرامِ هُنا؟"

وَإِذا بِالصَّمْتِ وَالكَلامِ يَتَناقَشانِ مَرَّةً أُخْرى.

ـ الصَّمْت: "إِذا كانَ لا يَتَحَلّى بِالاِحْتِرام، فَعامِليهِ بِلُطْفٍ وَصَبْرٍ كَعادَتِكِ لأَنَّكِ مُحْتَرَمَة".

ـ الكَلام: "لا تَسْمَحي لأَحَدٍ بأَنْ يُعامِلَكِ بِهَذِهِ الطَّريقَة، فَأَنْتِ لَسْتِ مُجَرَّدَ عامِلَةٍ هُنا، بَلْ لَكِ كامِلُ الحُرّيَّةِ أَنْ تَتَصَرَّفي كَما شِئْتِ".

ـ الصَّمْت: "لَقَدْ نَصَحْتُك، وَلَكِ أَنْ تَفْعَلي ما تُريدين".

في هَذِهِ الأَثْناء، قَرَّرْتُ الصَّمْتَ وَعَدَمَ الرَّدِّ عَلَيْه، فَقُمْتُ بِواجِبي وَقَدَّمْتُ لَهُ طَلَبَه.

بَعْدَ يَوْمٍ طَويلٍ وَمُرْهِق، أَغْلَقْتُ المَطْعَمَ واتَّجَهْتُ نَحْوَ المَخْرَجِ فَناداني المُديرُ قائِلًا إِنَّني نَسيتُ أَمْرًا ما، ثُمَّ أَعْطاني وَرَقَةً صَغيرَة، وَقَبْلَ أَنْ يَرْحَلَ شَكَرَني عَلى صَبْري واحْتِرامي وَمُعامَلَتي لِزَبائِنِ المَطْعَم. فَرِحْتُ كَثيرًا لِتَقْديرِهِ عَمَلي، وَتَذَكَّرْتُ أَنَّني لَمَحْتُ وَرَقَةً عَلى طاوِلَةِ الصَّبيِّ تُشْبِهُ هَذِهِ الوَرَقَةَ تَمامًا لَكِنَّني لَمْ أَقْرَأْها، فَفَتَحْتُها وَقَرَأْتُها: "إِلى السَّيِّدَةِ الَّتي قَدَّمَتْ لي الـ"مِلْك شِيْك"، شُكْرًا جَزيلًا لَكِ، لَقَدْ كانَ أَلَذَّ مَشْروبٍ تَذَوَّقْتُهُ في حَياتي كُلِّها. وَبِصَراحَة، طَلَبْتُهُ بِنَكْهَةِ الفَراوِلَةِ لأوَفِّرَ عَشْرَةَ سِنْتاتٍ لَكِ، طابَتْ لَيْلَتُك!"

فَتَساءَلْتُ في نَفْسي: "عَنْ أَيِّ عَشْرَةِ سِنْتاتٍ يَتَحَدَّثُ هَذا الصَّبيّ؟ آهٍ تَذَكَّرْت، لَقَدْ سَأَلَني عَنْ نَكْهَةِ الشّوكولاتَةِ أَوَّلًا وَبَعْدَ ذَلِكَ الفَراوِلَة. لَحْظَة! هَلْ طَلَبَ الصَّبيُّ نَكْهَةَ الفَراوِلَةِ لِكَيْ يُعْطيَني العَشْرَةَ سِنْتاتٍ الباقيَة؟"

آنَذاك، دَمِعَتْ عَيْنايَ وَتَذَكَّرْتُ كَلامَ الصَّمْتِ وَأَمْثالَه، فَلَوْ طَلَبْتُ إِلى الفَتى أَنْ يَرْحَلَ لَجَرَحْتُه. لِذا، شَكَرْتُ الصَّمْتَ كَثيرًا، وَتَذَكَّرْتُ مَثَلَ جَدَّتي الحَكيمَة: "الفَمُ المُطْبَقُ لا يَدْخُلُهُ الذُّباب".

هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "منّة خلف" بإشراف المعلّمة "رائدة محمّد" في الصّفّ العاشر من "مدارس الظّفرة الخاصّة/ العين/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2019-2020.

Previous
Previous

تَوافُقُ الصَّمْتِ وَالكَلامِ

Next
Next

خُطَّةٌ ماكِرَةٌ تَقْلِبُ المَوازينَ