تَوافُقُ الصَّمْتِ وَالكَلامِ
اِجْتَمَعَتْ عائِلَتانِ في حَديقَةٍ عامَّةٍ لإِمْضاءِ يَوْمٍ بَيْنَ أَحْضانِ الطَّبيعَةِ بِهَدَفِ التَّرْفيهِ عَنِ النَّفْسِ وَالاِبْتِعادِ عَنْ ضَغْطِ الحَياةِ وَالتَّعَب… وَكانَتْ أَجْواءُ كُلِّ عائِلَةٍ مُناقِضَةً للأُخْرى، فالأولى اكْتَفَتْ بِالتَّمَتُّعِ بِالمَناظِرِ الخَلّابَةِ بِهُدوءٍ وَصَمْت، أَمّا الثّانيَةُ فَكانَتْ تَسْتَمِعُ إِلى الموسيقى بِصَخَبٍ وَكانَ أَفْرادُها يَتَحَدَّثونَ بِصَوْتٍ عالٍ عَنْ مَواضيعَ مُتَنَوِّعَةٍ وَيَضْحَكون... ثُمَّ دارَ جِدالٌ بَيْنَهُما عَنِ الصَّمْتِ وَالكَلامِ كانَتْ خُلاصَتُهُ أَنَّ الصَّمْتَ للضُّعَفاءِ وَالجاهِلينَ الَّذينَ لا يَعْرِفونَ ماذا يَقولونَ وَكَيْفَ يَتَصَرَّفون…
في هَذِهِ الأَثْناء، كانَ كُلٌّ مِنَ الصَّمْتِ وَالكَلامِ يُنْصِتُ إِلى هَذا الجِدالِ العَميق، فَغَضِبَ الصَّمْتُ وَشَعَرَ بِالحُزْنِ لأَنَّ الخُلاصَةَ كانَتْ نَتيجَةَ صَمْتِ العائِلَةِ الهادِئَةِ بُغْيَةَ إِنْهاءِ المَوْضوع. فَقالَ الصَّمْتُ في سِرِّه: "كَمْ أَنا مُتْعَب! لَقَدْ تَعَوَّدْتُ الرّاحَةَ وَالسُّكونَ وَعَدَمَ الكَلامِ كَثيرًا، وَعِنْدَما أُريدُ التَّكَلُّمَ أُحَدِّثُ نَفْسي بِصَمْت، لَكِنَّني الآنَ عَلى وَشْكِ الاِنْفِجارِ إِذْ لَمْ أَعُدْ أَحْتَمِلُ رؤْيَةَ ما أَراهُ كُلَّ يَوْم، كَيْفَ يَتَجاهَلُني النّاسُ في مَواقِفَ كَثيرَةٍ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّني دَليلٌ عَلى الجَهْلِ وَضُعْفِ الشَّخْصيَّة، فَيُهْمِلُني الجَميعُ مِنْ دونِ إِدْراكِهِمْ أَنَّني دَليلٌ عَلى الحِكْمَة، وَأَنَّ بِاسْتِطاعَتِهِمِ اخْتِصارَ العَديدِ مِنَ النِّقاشاتِ وَالهَذَرِ بِمُجَرَّدِ الصَّمْت. لَمْ أَعُدْ أَتَحَمَّلُ كُلَّ هَذا الظُّلْم، لِذا سَأَتَحَدَّثُ إِلى الكَلام، فَهوَ الوَحيدُ الَّذي يُمْكِنُني التَّحَدُّثُ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ وِجْهَةِ نَظَرِهِ في هَذا المَوْضوع".
عِنْدَها، تَوَجَّهَ الصَّمْتُ إِلى الكَلامِ وَقالَ لَه: "أَيُّها الكَلام، ماذا جَرى؟ أَراكَ تَوَقَّفْتَ عَنِ الثَّرْثَرَة".
نَظَرَ إِلَيَّ الكَلامُ مِنْ دونِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ واحِدَة، فَبادَرْتُ بِقَوْلي: "ما بِك؟ لِمَ تَنْظُرُ إِلَيَّ هَكَذا؟"
ـ الكَلام: "أَراكَ مَحْظوظًا وَأَذْكى مِنّي، وَهَذا الأَمْرُ يُسَبِّبُ لي شُعورًا بِالغَيْرَة".
ـ الصَّمْت: "غَيْرَة! أَمِنَ المَعْقولِ أَنْ تَغارَ مِنّي؟ وَلَكِنْ لِماذا؟"
ـ الكَلام: "نَعَم، أَغارُ مِنْكَ لأَنَّكَ حَكيمٌ وَأَذْكى مِنّي، فَأَنْتَ لا تَنْطِقُ بِكَلِمَةٍ وَبِذَلِكَ لا يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يُحاسِبَك".
ـ الصَّمْت: "وَلَكِن، لا أَحَدَ يَراني كَما يَراكَ أَنْت. يَظُنُّ الجَميعُ أَنَّني وَسيلَةٌ لإِخْفاءِ الجَهْلِ لا الحِكْمَةِ وَالمَعْرِفَة، فَيَتَصَوَّرونَني بارِدًا، غَيْرَ مُبالٍ وَخاليًا مِنْ أَيِّ مَشاعِر".
تَفاجَأَ الكَلامُ بِجَوابِ الصَّمْتِ وَقال: "يَلومُني الجَميعُ عَلى اخْتيارِهِمِ الوَقْتَ الخَطَأَ وَالكَلِماتِ الخَطَأَ في حَديثٍ ما، وَيَتَّهِمونَني بِأَنَّني السَّبَبُ بِالنَّميمَةِ وَالظُّلْمِ وَالبُغْضِ في المُجْتَمَع، كَما يَقولونَ إِنَّني ثَرْثارٌ وَمُسَبِّبٌ للفُضولِ وَالتَّدَخُّلِ فيما لا يَعْنيني... فَهَلْ تَتَوَقَّعُ أَنْ أُحِبَّ سَماعَ كُلِّ هَذِهِ الاِتِّهامات؟"
هُنا، قَرَّرَ الصَّمْتُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ مَوْقِفَهُ وَيُحَدِّثَهُ عَنْ نَفْسِهِ ليُدْرِكَ أَنَّهُ مَحْظوظٌ أَكْثَرَ مِنْه، فَقال: "يا أَيُّها الكَلام، أَنْتَ، عَلى عَكْسي، لَكَ الحُرّيَّةُ في التَّعْبيرِ عَنْ رأْيِك، وَلَسْتَ مُضْطَرًّا أَنْ تَصْمُتَ وَلا مَجْبورًا أَنْ تَتَحَمَّلَ آراءَ النّاسِ الَّذينَ لا يُصْغونَ إِلَيْك. بَيْنَما أَنا، فَالكُلُّ يَأْخُذُ انْطِباعًا عَنّي مِنْ دونِ أَنْ أَتَكَلَّم".
ـ الكَلام: "الصَّمْتُ مُتْعِبٌ يا صَديقي، لَكِنَّهُ يَبْقى الأَرْقى للرَّدِّ عَلى الآخَر. فالنّاسُ يَلومونَني عَلى الوَسيلَةِ الَّتي قَرَّروا هُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلوها وَالكَلامِ الَّذي اخْتاروا هُمْ أَنْ يَقولوه، ما جَعَلَني أُدْرِكُ أَنَّ الصَّمْتَ لا يَعْني الجَهْل، بَلْ عَلى العَكْس، هوَ يَعْكِسُ الحِكْمَةَ وَالرُّقيَّ وَالذَّكاءَ واحْتِرامَ رَأْيِ الآخَرِ وَالوَعي…".
ـ الصَّمْت: "كَلامُكَ أَقْنَعَني يا صَديقي، وَالآنَ عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَخِرَ بِنَفْسِكَ وَتُحِبَّها إِذْ لَوْلا مَنْطِقُكَ لَما اقْتَنَعْتُ وَلَوْلا اقْتِناعي لَما أَدْرَكْتَ أَهَمّيَّتَكَ في المُجْتَمَع".
في الخِتام، أَثْبَتَ الكَلامُ أَنَّ الصَّمْتَ عَلى خَطأ، وَأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُما دَوْرًا فَعّالًا شَرْطَ اخْتيارِ الزَّمانِ المُناسِبِ وَالطَّريقَةِ المُلائِمَةِ لإيصالِ وِجْهَةِ النَّظَر.
هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "سارة عبد الحليم بدران" بإشراف المعلّم "معاذ محمّد" في الصّفّ العاشر من "مدرسة الأكاديميّة العربيّة الدّوليّة/قطر" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2019-2020.