المَدْرَسَةُ العَجيبَة

 
 
 
 

كُنْتُ في الصَّفِّ السّابِعِ في مَدْرَسَةِ "الجُنونِ" عِنْدَما دَخَلَ الصَّفَّ مُعَلِّمُ التّاريخِ الَّذي كانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ التَّنْظيمَ الصّارِمَ وَالجِدّيَّةَ مِنْ أَساسِ النَّجاحِ في الحَياةِ الدِّراسيَّةِ وَالمُجْتَمَع. كانَ اسْمُهُ "غَضْبان"، وَهوَ اسْمٌ عَلى مُسَمّى؛ فَقَدْ كانَ الجَميعُ يَخافونَ مِنْهُ وَمِنْ قَسْوَتِه، كَما كانَ يُشْعِرُنا أَحْيانًا بِالمَلَلِ الشَّديد، فَنَتَمَنّى لَوْ نَكونُ في مَكانٍ آخَر. لَمْ يَكُنْ هَمُّ المُعَلِّمِ "غَضْبانَ" سِوى الِالْتِزامِ والتَّنْظيمِ لِتَحْقيقِ الأَهْدافِ التَّعْليميَّة. وَمِنْ بَعْدِه، دَخَلَتْ مُعَلِّمَةُ اللُّغَةِ الإِسْبانيَّةِ المُفْعَمَةُ بِالحَيَويَّة، وَالَّتي تَتَمَتَّعُ بِالمُرونَةِ العَقْليَّةِ وَتَقَبُّلِ التَّحَدّياتِ بِالِابْتِسامَة. تَمَيَّزَتْ هَذِهِ المُعَلِّمَةُ بِمَظْهَرِها العَجيبِ وَأُسْلوبِها المَرِنِ في التَّعامُل، وَكانَتْ فَريدَةً مِنْ نَوْعِها وَمَحْبوبَة. والمُضْحِكُ في المَوْضوعِ أَنَّ اسْمَها "بوبيتّا".


ذاتَ يَوْم، قَرَّرْنا التَّآمُرَ عَلى المُعَلِّمِ "غَضْبانَ" مِنْ خِلالِ عَدَمِ إِحْضارِنا الكُتُبَ إِلى المَدْرَسَةِ والتَّظاهُرِ بِنِسْيانِها، وَهَكَذا نَكونُ قَدْ تَخَلَّصْنا مِنْ هَذا المُعَلِّمِ المُزْعِجِ وَحِصَّتِهِ المُمِلَّة.


وَفي اليَوْمِ التّالي، في تَمامِ السّاعَةِ التّاسِعَةِ صَباحًا، دَخَلَ المُعَلِّمُ "غَضْبانُ" الصَّفَّ مُكَشِّرًا كالعادَة، وَطَلَبَ إِلَيْنا وَضْعَ الكِتابِ عَلى الطّاوِلَة. وَلَكِنْ لِسوءِ حَظِّه، لَمْ يُحْضِرْ أَحَدٌ كِتابَه، فَغَضِبَ كَثيرًا وَقالَ صارِخًا: "ما هَذِهِ الفَوْضى؟ أَنا لا أَقْبَلُ هَذِهِ المَهْزَلَة!"، وَهَكَذا أَمْضى الحِصَّةَ يؤَنِّبُنا وَيُهَدِّدُنا بِالعِقاب. ثُمَّ رَنَّ الجَرَسُ وَخَرَجَ مُسْرِعًا وَهوَ يُتَمْتِم: "لَمْ أَعُدْ أَسْتَطيعُ تَحَمُّلَ هَؤُلاءِ الفاشِلين." لَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَبِهْ إِلى المُعَلِّمَةِ "بوبيتّا"، فاصْطَدَمَ بِها وَوَقَعَتْ عَلى الأَرْض، وَكانَتْ لَحْظَةً غَيْرَ مُتَوَقَّعَةٍ وَصَعْبَة. لَكِنَّ الجَميعَ بَدَأوا بِالضَّحِكِ حَتّى المُعَلِّمَة، إِذْ لَمْ تَتَمالَكْ نَفْسَها وَبَدَأَتْ تَضْحَكُ مَعَنا. فَشَعَرَ المُعَلِّمُ "غَضْبانُ" بِالخَجَلِ واحْمَرَّ وَجْهُه، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلى المُعَلِّمَةِ مُغادِرًا بِسُرْعَةٍ وَمُتَمَنّيًا لَوْ تَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَبْتَلِعُه. جَلَسَتِ المُعَلِّمَةُ عَلى كُرْسيِّها كالمُعْتادِ وَقالَت: "عَلى أَحَدِكُمْ أَنْ يَشْرَحَ لي ماذا فَعَلْتُمْ حَتّى خَرَجَ مُعَلِّمُكُمْ بِهَذِهِ الطَّريقَة." فَأَجابَها أَحَدُ التَّلاميذِ بِأَنَّهُ آتٍ مِنَ العُصورِ البِدائيَّة، وَهوَ جادٌّ وَحازِمٌ وَلا يَمُتُّ إِلى روحِ الفُكاهَةِ والتَّطَوُّرِ والتِّكْنولوجيا بِصِلَة، كَما أَنَّهُ يَهْتَمُّ فَقَطْ بِالدَّفْتَرِ والكِتاب، وَحِصَّتُهُ مُمِلَّةٌ جِدًّا." فابْتَسَمَتْ "بوبيتّا" قائِلَة: "دائِمًا ما نَجِدُ تَضارُبًا وَصِراعًا بَيْنَ الأُسْلوبَيْنِ في التَّعْليم: الأُسْلوبِ القَديمِ والأُسْلوبِ الحَديث. وَلِكُلٍّ مِنّا طَريقَتُهُ في إيصالِ المَعْلوماتِ وَمُساعَدَةِ التَّلاميذِ في اكْتِسابِ المَهارات." عِنْدَها تَضارَبَتِ الآراءُ بَيْنَ مؤَيِّدينَ لِلْفِكْرَةِ وَمُعارِضينَ لَها، إِلى أَنْ تَدَخَّلَ فَيْلَسوفُ الصَّفِّ "سَمْسوم، وَهوَ تِلْميذٌ غَريبُ المَلامِحِ والأَطْوار، قائِلًا: "نَحْنُ نُحِبُّ روحَ الِاسْتِكْشافِ وَتَحْسينَ ذاتِنا عَبْرَ التَّفْكيرِ الهَيْكَليّ، وَلَكِنْ عَلَيْنا أَنْ نَتَضامَنَ مَعًا، نَحْنُ التَّلاميذُ وَالمُعَلِّمون، لِذَلِكَ نَحْتاجُ إِلى المُساعَدَة." فَوافَقَتِ المُعَلِّمَةُ عَلى مُساعَدَتِنا وَتَحْديدِ لِقاءٍ مَعَ المُعَلِّمِ "غَضْبانَ" لِمُناقَشَةِ الوَضْعِ والتَّوَصُّلِ إِلى حَلٍّ يُرْضي الجَميع.


وَفي اليَوْمِ التّالي، دُعينا جَميعًا إِلى هَذا اللِّقاءِ وَكانَ الِارْتِباكُ واضِحًا عَلى وُجوهِنا. ثُمَّ بَدَأَتْ مَعْرَكَةُ الأَفْكارِ والمُفاجآتِ غَيْرِ المُتَوَقَّعَة، فَكانَ المُعَلِّمانِ يَتَبادَلانِ نَظَراتِ الإِعْجاب، فيما كُنّا، نَحْنُ التَّلاميذ، طَموحينَ وَجادّينَ في طَلَباتِنا. بَعْدَها، اِخْتَلَطَتِ الأُمورُ عَلى الجَميعِ وَتَبَدَّلَ الجَوُّ مِنْ حالَةِ تَوَتُّرٍ إِلى لَحَظاتٍ هَزَليَّةٍ تَناقَضَتْ فيها المَفاهيم. لَكِنَّنا، وَلِلْمَرَّة الأولى، رَأَيْنا ابْتِسامَةَ المُعَلِّمِ "غَضْبانَ" وَتَكْشيرَةَ المُعَلِّمَةِ "بوبيتّا"، فَقَرَّرْنا تَغْييرَ اسْمِهِ مِنْ "غَضْبانَ" إِلى "فَرْحان"، وَتَحْضيرَ المَقالِبِ الطَّريفَةِ لِهَذا الثُّنائيِّ المُتَنافِرِ والمُتَناقِض.


وَمُنْذُ ذَلِكَ الحين، تَبَدَّلَتِ الأَجْواءُ في مَدْرَسَةِ "الجُنونِ" وازْدَهَرَتْ في كُلِّ أَنْحاءِ البِلاد؛ لِأَنَّها كانَتِ المَدْرَسَةَ الأَغْرَبَ عَلى وَجْهِ الكَوْكَبِ حَيْثُ تَجْتَمِعُ فيها التَّناقُضاتُ بِمُخْتَلَفِ أَوْجُهِها.


هذا النّصّ من تأليف التّلميذة "دونا ناجي تابت" بإشراف المعلّم "أحمد سمّان" في الصّفّ السّابع أساسيّ من "المدرسة الفرنسيّة الدّوليّة في دبي/ الإمارات العربيّة المتّحدة" خلال مشاركتها في مسابقة التّعبير الكتابيّ على منصّة "كم كلمة" في العام الدّراسيّ 2023-2024.


Previous
Previous

تَبادُلُ العُقول: مُغامَرَةٌ في قَرْيَةِ الرّيف

Next
Next

الشَّرابُ الغَريب